التلوث يدمر بحار تونس.. حتى بات السواد يكسو جسم السمك من الداخل
يصمم سمير سديري على موقفه، الذي يردده دائماً، ويقول: «لم يتبقَّ كثير من السمك، وما نصطاده منه ملوَّث. إذا فتحت خياشيم السمك، فستجد أن اللون الأسود يغطيها من الداخل».
وسط الكلام المتصاعد في المقهى، تهز لبنى بن علي بوعزة رأسها موافقةً على هذا الرأي، إذ قالت: «عندما كنت طفلةً، كان والداي يسمحان لنا باللعب على الشاطئ هنا طوال اليوم، والسباحة في الماء وخلافه. كانت هذه أفضل الشواطئ الموجودة بالمنطقة. لكنني حالياً اصطحب أطفالي إلى أماكن أخرى»، حسب صحيفة The Guardian البريطانية.
خارج المقهى في حلق الوادي، وهي ضاحيةٌ صغيرة تقع شمال تونس العاصمة وتشتهر بصيد الأسماك، يشرع السكان في أعمالهم. إنها الأيام الأولى من شهر يونيو/حزيران، والشواطئ لا تزال خالية نسبياً.
خليج تونس يثير غضب النشطاء
يسير بعض الأشخاص على الرمال، في حين تقف قوارب الصيد مقلوبة وساكنة بالظهيرة. يصعب التعرف على هذه الشواطئ في الصيف، إذ تبدأ العائلات في مختلف أنحاء تونس، التي تسعى للهروب من درجات الحرارة المرتفعة، في ركوب القطار الذي يمر ببحيرة العاصمة، والموانئ الصناعية بمدينة رادس، قاصدةً شواطئ المدينة، حيث تتنافس خيامهم المبعثرة للتمتُّع بمساحةٍ على الرمال المزدحمة.
ولا تعد المياه قبالة مدينة حلق الوادي مصدر القلق الوحيد، فخليج تونس بأكمله يثير غضب النشطاء، إذ تقصد النفايات الصناعية والمنزلية القادمة من العاصمة، التي يتجاوز تعداد سكانها 600 ألف نسمة، بالإضافة إلى النفايات القادمة من الموانئ والمدن الصناعية المحاذية للخليج، مياه البحر خارج تونس، وهو ما يؤثر في الأسماك ويشكل تهديداً جلياً على صحة الإنسان.
ولا تعد قضية التلوث بتونس شأناً جديداً، إذ تؤثر الصناعات الثقيلة في جودة المياه منذ سنوات. لكن، منذ ثورة 2011، أصبح النقاش حول التأثير البيئي لهذه الصناعات على الأقل أمراً ممكناً، حتى وإن كانت الإجراءات المضادة التي يطالب بها النشطاء لا تزال بعيدة المنال.
وفقاً للبيانات الرسمية، تعالج تونس نحو ربع كمية مياه الصرف، لاستخدامها في ري الأراضي الزراعية، بالإضافة إلى أهداف أخرى. وتُصرف بقية المياه (البالغ حجمها نحو 247 مليون متر مكعب سنوياً) من محطات المعالجة الحكومية مباشرةً في مياه البحر والقنوات المائية الداخلية.
القانون يقول شيئاً، والتطبيق شيء آخر
وفقاً للتشريعات البيئية، تجب معالجة مياه الصرف الصناعي أولاً من المصدر قبل نقلها إلى مكان آخر، لمزيد من المعالجة. غير أن نشطاء الحملات البيئية يتساءلون عن مدى صرامة تطبيق هذه التشريعات.
توجد 3 محطات ضخمة لمعالجة مياه الصرف، وهي تخدم السكان حول منطقة خليج تونس، في مدينة رواد، الواقعة شمال غربي الخليج، ومدينة رادس، الواقعة قرب مدينة حلق الوادي في الجانب الغربي، ومدينة سليمان، الواقعة على الامتداد الصناعي الجنوبي للخليج.
ويدير جميع محطات المعالجة الديوانُ الوطني للتطهير، المعروف اختصاراً بـONAS، والتابع لوزارة البيئة والتنمية المستدامة والذي يتلقى دعماً كبيراً في صورة قروض من المؤسسات الدولية، وفقاً للنشطاء.
يقول مرشد غربوج، رئيس منظمة الضغط البيئية SOS BIA: «إنه أمرٌ جنوني! لقد اختبرنا المياه المتجهة إلى محطات المعالجة هذه واختبرنا المياه الخارجة منها، ويمكنني أن أقول لك إنه لا فرق كبيراً بين الاثنين».
تُنقل مياه الصرف المحلية والصناعية من مناطق واسعة في تونس إلى محطات معالجة مياه كبيرة. ومخرجات هذه المحطات جليةٌ في الخليج.
يقول غربوج، مهندس بيئي: «اختبرنا المياه المتدفقة من وإلى هذه المحطات في الفترة من 2016 وحتى 2017 وكانت النتائج متوافقة. وجدنا تزايداً في مستوى النترات، وجزيئات المنجنيز، والفوسفات، بالإضافة إلى القولونيات البرازية والمكورات العقدية -كلتاهما موجودة في فضلات الإنسان- بالإضافة إلى مواد أخرى. وتتسبب كل هذه المواد في أضرارٍ صحية».
أصابع الاتهام تُوجَّه إلى الحكومة
ويتابع غربوج: «جادلت الحكومة في هذه النتائج، لكنها لم تطلعنا على المنهجية التي استخدمتها، لذا من الصعب التحقُّق من مدى مصداقية نفيها».
وأضاف: «تتسم عملية معالجة جميع مياه الصرف في تونس بالمركزية، إذ يمر كل شيء عبر الديوان الوطني للتطهير، وضمن ذلك قروض التنمية القادمة من البنك الدولي، والاتحاد الأوروبي وبنك التنمية الألماني. لقد بعثنا إليهم بنتائج اختباراتنا. وهم على علمٍ بما يحدث. ويعلمون أن قروضهم غير مجدية، لكنهم فقط غير مهتمون».
وتابَع: «يبدو أنه لا أحد يعبأ بمدى جودة عمل محطات معالجة المياه. يعد الديوان الوطني للتطهير، الذي يدير هذه المحطات، وحدةً تابعة لوزارة البيئة. أتعلم من المسؤول عن التحقُّق من مدى كفاءة عمل هذه المحطات؟ وزارة البيئة».
وتشاركه وفاء حمادي، وهي منسقة برنامج بمنظمة راج تونس البيئية، الرأي في إدانة الحكومة، إذ قالت لصحيفة The Guardian: «ليس فقط خليج تونس». وتفيد وفاء بأن السواحل الممتدة على طول المنطقة المحيطة بمدينة صفاقس الصناعية، وولاية قابس -بالقرب من منجم الفوسفات في مدينة قفصة- باتت «غير صالحة للاستخدام».
الرقابة غائبة ولا توجد محاسبة على الخروقات
وتابَعَت حمادي: «تأثرت عديد من القنوات المائية الداخلية في تونس بالصناعات الثقيلة مثل صناعة الورق، إذ تجد الملوثات الصناعية طريقها إلى البيئة المحلية، مؤثرةً على السكان المحليين، قبل أن تتوجه إلى البحر. وينفق السمك، خاصةً الكبير منه. وبعض المناطق قد نفق فيها السمك كلياً».
وأضافت: «لا توجد أي رقابة تقريباً. تستطيع الملوثات الصناعية صرف نفاياتها دون معالجة إلى حدٍ كبير، إذ لا يوجد تفتيش وما من أحدٍ يحاسبهم».
ولا يعد هذا الكلام نبأً جديداً بالنسبة للُبنى وسمير. فهما وعائلتهما يعيشون أثر تزايد تلوث المياه منذ سنوات. لكن، في بلدٍ تعاني بطالة مستفحلة وتحاول جاهدةً محاربة الارتفاع المطرد في تكلفة المعيشة، يعي كلاهما احتياج بلادهما الماس للصناعة والوظائف.
غير أن التغيير يأتي ببطء في مدينةٍ بُنِيَت على ساحل البحر. خارج المقهى، وعلى طول الساحل المكتسي بأشعة الشمس، لا يزال الأطفال يسبحون في المياه العكرة، أو يقفزون من فوق حوائط القنوات المائية القديمة بمدينة حلق البحر صوب المياه مثلما اعتادوا أن يفعلوا هذا على مدى سنوات.
تقول لُبنى: «يأتي الناس إلى هنا. وسيفعلون هذا على الدوام».