التشكيلي اللبناني عدنان شرارة..الاستفهامات الذهنية خصوصية فردية تسرد صورة تشكيلية من واقع التزام فني بالإنسانية
تعتبر التجارب الفنية التشكيلية المزدوجة بين حضارتين وعالمين ثرية الفكرة والخيال عميقة البحث والاستدلال سواء في مسارات التشكيل السردي البصري أو في كثافة الرموز والأفكار والبحث الإنساني عن لغة العالمين وتنطلق بذاتها المكتملة لتستنطق الاختلاف بلغة موحدة هي الفن.
وهو ما يقدّمه الفنان التشكيلي اللبناني الأمريكي عدنان شرارة حيث اتخذ لنفسه مسارا فنيا تشكيليا معاصرا استحدث قيمه ومداراته من ابتكاراته المتنوعة التي تجمع تساؤلاته وحيرته وشكوكه الطاغية على العناصر والشخوص والقيم الفنية والمواقف من الفن التي تتحرك وفق تلك التراكمات لتبحث لها عن منافذ وآفاق وهو ما يقدّمه في مشروعه الفردي أو الجماعي الذي يتواصل فيه مع تشكيليين من مختلف التوجهات الفنية والأساليب كما في معرضه الحالي الذي يقدّم فيه أسئلة الألوان وترتيب درجاتها الاندماجية مع التقنية والأسلوب مع الشخوص والكاريكاتير التوظيفي في الطباعة وإعادة الطباعة وقد انطلق المعرض في شهر جوان الماضي وسيتواصل إلى منتصف شهر سبتمبر القادم.
يؤمن عدنان شرارة بالعمل الجماعي الجمالي والخلق الابتكاري الفكري والذهني وفلسفة الجدل الداخلية التي تؤسسها الألوان والأشكال والملامح والشخوص وهو المسار الأساسي الذي يخوض فيه شرارة تجربته مع متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية Farhat Art Museum .
فهو يرى التنوع في ذاته ويعكسه على العالم، فالفنان التشكيلي اللبناني الأمريكي عدنان شرارة فنان من أبرز التشكيليين العرب الذين لامسوا العالمية بالتصور الفني المعاصر ومحاكاة الإنسانية بالسؤال والعبث الابتكاري بالقيم الجمالية حسب معايشات الواقع وما يحمله في عمق أحاسيسه من تجريد يوحّد داخله الفن كلغة إنسانية الملامح لا تقف عند نمط معين وأسلوب منفصل لان الفن كما يراه تبادل حقيقي التنفيذ.
عاش شرارة تنوع الثقافات من جغرافيا متنوعة منذ طفولته بين آسيا وافريقيا وأمريكا، ولد بلبنان وتنقل بينه وبين سيراليون ليستقر في الولايات المتحدة الأمريكية في سن الثامنة عشر لدراسة الهندسة وهناك تكوّن له عناد طفولي المرح حوّل وجهته نحو نحت ما يرسمه على الورق فكان التواصل بالفنون حين فقرّر أن يكون فنانا تشكيليا ونحاتا يثبت خطواته الفكرية واستفهاماته ليؤسس لنفسه صياغات فنية جديدة جمعت الصناعة والحرفة والابتكار والتفاعل مع الخامات وتنوعاتها ومع الأسئلة وأبعادها البصرية.
محترفه الفني عبارة عن فوضى جمالية داخلية محمّلة بالألوان الساطعة بالعناصر التي تتردد بين الاستفهامات المرحلية التي تطرأ على ذهنه مع كل ما يجتاحه من أحداث تتحايل على الواقع لتنطلق نحو الحلم ملتزمة بالإنسان والتعبير عن الشرق بلكنة غربية وعن الغرب بلكنة شرقية يخترقها بفنه ليكون فنانا انسانا يخاطب العالم بلا أي لكنة فقط بلغة الفن.
عن هذه الأفكار يقول شرارة “تعلمت من تجربتي الفنية عدم تقديم الحلول بل التعود على أن أطرح الأسئلة أن أثير الفكرة والتفكر أن أروض تلك المشاحنات النفسية المتصارعة أطرحها مندمجا مع واقعي بكل المواضيع الإنسانية الثقافية والفنية، فانا أجمع القصص والحكايات وأبنيها بصريا على سردية التفاعل الحسي والتكوين الذهني لتفتح حوارات داخلية تشبه المحاورات والجدليات والاستفهامات الملتزمة بواقع الفن وقضايا الانسان”.
يقدم شرارة فلسفة مفاهيمية بعناصر فنية يطرح بها طرق التواصل مع المادة الفنية والتعامل الحسي مع كل قطعة ورمزياتها التي تعني فكرة وسؤالا في كل ملامحها التي تحيل على المعرفة والتواصل باختلاف الرموز التي يقدمها فرمزية الصورة تأسس لفكرة السؤال والمشهد يفجر الاستفهام في صورة القلم والمطرقة والمسامير والرؤوس والشخصيات الكارتونية التي ينحتها ويصوّرها لتحمل رموزه تلك التي تعني العلم والمعرفة والتواصل والآخر فهو يستطيع أن يدمج العلامة الرمزية المألوفة مع فكرة غير مألوفة كان يحمّل جوف بقرة عالما من الخراب والعنف ويستدرج فكرته نحو عمق سؤال يراه أساس الإنسانية واكتمال المعارف في الفلسفة والفكر والأدب والشعر.
إن لوحات شرارة تتجمّع على الأسئلة المطروحة في كل تراكمات الواقع والوجود والحضور المفاهيمي بالعمل اليدوي يتعايش مع خاماته وبدلالاته ومقاصده الذهنية يسكن فكرته وهذه المنافذ تجمّع العناصر والخامات وتآلف بينها لتكمّل المفهوم والمقصد والأداء، فالرسم عالم صبياني طفولي ناضج ومجنون يتراكم فيه الفرح والطفولة والخيال والفكرة بقوة ناعمة الألوان وخيال مشبع بالحركة والحيوية.
يرى شرارة في فكرته الفنية عمقا يتفاعل مع ذاته والآخر الذي يختلف بأسئلته عنه وهنا يحاور الإنسانية بهوية مبنية على التيارات المغايرة التي تحرك قاع التاريخ فيتفاعل الزمن والحاضر بشكل جيد.
ففي أعماله تلك يستعرض أفكاره الساخرة بكوميديا مرحة تصعّد الحس العاطفي بهندسة تحاكي الواقع بأسلوب يتماهي بين الكلاسيكي والواقعي في التعبير المعاصر المنشق منها.
فهو يقتبس اللوحات الكلاسيكية بعناصرها المعروفة ويحوّل فكرتها إلى فكرة تعنيه تعني قلقه واضطرابه وتساؤلاته النفسية الذاتية وتساؤلات الوجود مثل لوحة الصرخة لادوارد مونش التي تعكس معاناة جسّدها على رمزية الوقت والترقب والانتظارات المستحيلة التي تحوّل المفهوم الفني من انتحار الشخص وصرخته إلى صرخة الوقت نفسه وفيها يخوض ابتكار وموقف وتجربة الحداثيين ويوظف وفقها أفكاره وهو ما جسّده أيضا مع أعمال فان جوخ اذ يستخرجها من عمق الاجهاد العقلي لتفاعلاتها المعمقة بالفكرة الفنية واستخراجاتها ويضفي عليها حسا جديدا معاصرا حداثي التساؤلات بالنقاط الملونة بالخطوط المتداخلة بالأشكال والملامح، مع ما يجول في عمقه فالاقتباس المنشق عن لوحة الصرخة حمل مزاج التوتر الشديد وانغمس في الوجوه والأطر مكانا وزمانا، ومحاورات جمّعت القيم الفنية مع اقتباس مسخّر من لوحات سلفادور دالي وهلامية الوقت في ساعاته السائلة والأفواه المفتوحة فالحياة المأساوية والخطوط والألوان والعتمة في بؤر الضوء السوداء ورموز الكتب والمسطحات والعناصر تتحمل وجع اغتراب الواقع والمزاج المنوع للفكرة.
لا يستثني شرارة عنصرا من عناصر التعبير الرمزي والدلالة المتوفرة في خاماته من التعمق في معانيها ومقاصدها من الساعات والعُملة والقصاصات والطوابع البريدية والورق والكتب والمفاتيح التي يرسكلها ويدوّرها حسب مفاهيمه بين الكولاج والتجميع والنحت والصياغة ليروضها بحس الفكاهة الذي يخرجها من ضيق الواقع الخانق والأسئلة المتراكمة حتى يحفز المتلقي للسؤال ويستثني الحلول من مباشرة الوصف السطحي وهو يكثف رموزه الساخرة.
يعتمد شرارة على الفكاهة كعنصر من العناصر التي يستخدمها في فنه فالكوميديا والرسم الكاريكاتوري والطباعة والنحت تحوّل منجزه إلى مدار مسرحي يتقمص فيه كل عنصر دورا وكل فكرة تكوّن مشهدا يمكنه من أن يقدم زخارفه الوجودية بالبساطة المألوفة والقريبة من الذهن والتلقي ما يجعلها سهلة الفهم وموثوقة للناس باختلاف مستواهم رغم سوداوية التجريد لواقعية تلك الفكرة إلا أن تبسيطها وتكثيف الكوميديا يمنح المتقي سكينة فضولية البحث كما يحوّلها أكثر نحو التوافق الطفولي في الفهم والقراءة التي يمنحها شرارة ذهنية لرموزه التي ذهب بعيدا بالمعنى المطلوب كالمطرقة التي تطرق على الذهن للمعرفة يعتمدها بعيدا عن معناها الأصلي في البناء أو التدمير أو الثقب ليصبح دورها عاطفيا أكثر يتحوّل نحو الإصلاح والأخلاق التذكر والطرق تحطيم المسامير وتثبيت استقرارها وحركتها ومدى اتساع الثقوب التي تحدثها لتستوعب المعارف.
يراجع شرارة البناء السردي لكل رمز يستخدمه ليحبك قصته في خياله المنبعث من زوايا الواقع اللامعتاد في صورة “قلم الرصاص” حين يضعه على رأس شخوصه ومعه رصاصة تحوّل فكرة البناء العلمي والحضاري من احتواء الذات البشرية وطاقة المعرفة إلى صور الدمار والعنف والقتل.
شغف عدنان شرارة بكل تفاصيل الفن وبتراكمات الأسئلة خلقت عنده فضول البحث والابتكار وترصيف الأسئلة بما يليق ومنجزاته وهو ما أهّله ليحمل أكثر من بصمة وأكثر من توقيع فني أسلوبي وهذا يعدّ في حد ذاته عبقرية متفردة.