التشكيلي الفيتنامي «ترانغ كيوك تران» .. سرد بصري لأحاسيس الذاكرة من مجازات اللون إلى الملامح تعبيير تجريدي وتجريد معبر
تتشكل التجربة في الفنون البصرية بالتوافق مع عدة عناصر تبدأ من الفكرة المرصودة في الإحساس والذاكرة والتذكر ومن واقع كثيف في تداخلاته الحسية والتجريبية، خصوصا عندما تجمع الانسان علاقة معايشة لآلام الهجرة والتهجير التي تقتلعه من هويته وتلقي به في أماكن متنوعة تتقاذفه بواقعها الصعب وتعيده إليه انسانا مجردا من تجربته هكذا بدأ التشيكلي الفييتنامي “ترانغ كيوك تران” تجربته الفنية أخذا وردا بين فييتنام والولايات المتحدة الأمريكية محمّلا بالوجع والحنين بالربح أن يكون فنانا ومهندسا بصدفة محمّلة بالخسارات جعلت أعماله التي تركها مجبرا في الولايات المتحدة الأمريكية تنقذه من إفلاسه فتباع في مزادات فنية وبالتالي تنبش بحثا عن اسمه وتشرق غوصا في تجربته الفريدة والخاصة في تفاصيلها المرحلية المكثفة بالصخب الواقعي والعلامات البصرية.
ولد ترانغ كيوك تران بفيتنام سنة 1961هاجر إلى الولايات المتحدة الامريكية عمل واستقر فيها دون أن ينفصل عن وطنه غير أن ظروفه الأسرية والمادية والواقعية حملت تجاذبات أجبرته على الانفصال عن الولايات المتحدة الامريكية والعودة إلى وطنه بعد أن أسس تجربة فنية عميقة تركها في مستودع استأجره بسان فرانسيسكو ولكن الظروف منعته من سداد إيجاره وانقطعت اخباره مما اضطر بالمالك إلى عرض أعماله بالمزاد العلني فلفتت تجربته الانتباه إليها ما أعاد اسمه إلى الحياة وانتشله من رماد التغييب ليستعيد دوره في مجال الفن التشكيلي والهندسة.
لترانغ أسلوبه ورؤيته الفنية الحديثة أعماله الجدارية الضخمة تبرز توليفة زاخرة بالأفكار والابتكار والفلسفة المرتكزة على الطبيعة والإنسانية حيث اعتمدت لوحاته على بعدي الضخامة التي تطغّي فكرة الحضور الصارخ في ترتيب المحتوى العميق لما يريد تقديمه والرموز الدلالية التعبيرية المستوحاة من تفاصيل الحياة في فيتنام.
يقدم لوحات كبيرة الحجم على القماش معتمدا على الألوان الزيتية، تعيده إلى طفولته ووطنه فيرصد تاريخه وحضارته وحضوره ويواكب تطوره وأبرز ملامحه من خلال الشخوص والأمكنة والطبيعة بأسلوب تعبيري تجريدي ورمزي ينتقل بالمشاهد نحو تلك المساحات البصرية الجديدة ليثير داخله فضول البحث لما تحمله اللوحة من ألوان تسرد أعمق التفاصيل بمدلولاتها الفنية تعبيرا عن الانتماء للأرض، حيث تعكس انهماكه في التجديد المعاصر الذي ميّز التجربة التشكيلية الفييتنامية التي تبحث عن عالميتها وحضورها الإنساني بكل ما تحمل من مراحل تعبيرية واقعية.
فقد عرف الفن التشكيلي في فيتنام انفتاحا شمل الفكرة والمفاهيم والتعبير بخصوصياته الوطنية التي ابتعدت عن تقليد التجارب واستنساخها لتهتم بالتفرد والمميزات الحسية والتطوير المعالج للفكرة وفق الخامات المتوفرة والمتماسكة مع العادات والملامح المندمجة مع المجتمع لتلون التاريخ وبساطة الطبيعة والانسان.
فالتنوع الاثني والبشري والتلون الثقافي والديني خلق عمقا تمازج وتماوج في الحياة العادات والاحتفالات والألوان التي تجلت في التعبير الثقافي.
تأثر الفن التشكيلي في فيتنام بالفن الصيني والفرنسي ما منحه تنوعا في القواعد سواء تلك التي ركّزت على الفلسفة الصينية أو المدارس الفرنسية الكلاسيكية والحديثة في الفن دون إهمال للخصوصية.
وهو ما وضع الحركة التشكيلية في مسار مختلف من حيث التعبير، فالواقع السياسي الذي مرت به هذه المنطقة كان له تأثيره بشكل كبير على طرق ووسائل التعبير الفني بتوجيهها نحو المقاومة والمحافظة على تاريخ المنطقة وعاداتها ما دفعها لخلق بصمة حافظت على القيم التقليدية دون المبالغة في تقديمها كفلكلور بل فنا حديثا وله مدارسه التي انفتحت على العالم وأبهرته بكل ما تحلت به من تفرد ميز الروح الفنية الفيتنامية فحين عرض فنانو فيتنام في بداية التسعينات أعمالهم في أوروبا انبهر النقاد بالإتقان والابداع والفكرة والخامات والصياغة والرمز سواء الأعمال المنجزة على الحرير أو القماش الخزف الورق والخشب إضافة إلى الجداريات التي ميزت هذه الحركة خاص تميز بعض الفنانين بتصميم الجداريات ذات المساحات الواسعة التي تحكي عن ملاحم عبرت عن الجغرافيا والأرض والانسان والطبيعة مثلما قدّم ترانغ كيوك تران.
تتميز أعماله بتنوع فريد في الألوان توليفة متنوعة ترتكز على السواد والرمادي لتظهر مع الرموز والمعاني والأفكار فتطرح حنينه وشغفه فهو يتقمص كل شخوصه في علاقاتها المفتوحة على الحياة ببساطة تستفز الذائقة لملامسة جمالياتها في اكتشاف المساحة البصرية المجهولة داخل مسطح اللوحة، ما يقود للمعرفة ويستثير دهشة البحث عن مفاهيم لتلك الدلالات، بتوظيف عناصر الطبيعة والأمكنة المشحونة بفكرة الأبدية التي تسرد قصص العابرين والمزارعين والكادحين على الأرض والتي تعيده لجذوره.
فهو يوظف علاماته وأسلوبه الهندسي لرصد الامكنة السوق الحقل الصيد، وتفاصيل الملبس الزي الشعبي القبعات، العادات اليومية والملامح المفعمة بالحركة والتنوع داخل تلك المساحات الشاسعة التي تمنح ذاكرته فرصة استعراض مشاعره المنعكسة ببساطة ألوانا وأضواء تتماهى مع كل تلك المظاهر الحياتية.
خلق ترانغ فكرته الفنية الخاصة منطلقا من وطنه حالما في الطبيعة والبيئة محلقا مع أسطورة البقاء والخلود بعناصر اللوحة لونا ضوء وفكرة وخطوطا ونقاط وتشعبات هندسية حسب انفعالاته وأحاسيسه ليشير إلى هويته من خلال الحركة، بمراقصة الفرشاة وترويض ضرباتها، لتكسب الصور شاعرية ملونة ومتدفقة بانسياب مع عواطفه وفكرته وكأنها في رحيل يعيده إليه مع الألوان والأضواء والحركة والأشكال كلها تسترد ملامحها من ذاكرة تتمازج لتروّض الألوان وتندمج مع الحالة النفسية والشاعرية لتنجب ألوانا جديدة في انبعاث الضوء، “تعلمت في كلية الفنون كيف أتعامل مع اللون أكاديميا وتقنيا كي أحوّل حضوره إلى معنى يعبأ مساحة الفكرة ويخلق حركة الشكل ولكن فيتنام علمني كيف أمنح اللون روحا وإحساسا ممزوجا بعمق الطبيعة التي تعيدني إلى هناك”.
يوغل الفنان في التجريد ويجادل الشخوص بالرمز فيمحو الأشكال في تراتيل ذاكرته المبعثرة والموزعة بإحكام بصري على جماليات طبيعية الحضور بحيوية تتوافق مع رؤيته اللونية، تتناغم مع موسيقى الروح والجسد داخل الفضاء فمن خلال المزج بين الشكلي واللوني تظهر اشتقاقاته الهندسية المترادفة التي تغرسه كذات لها انتماؤها في الطبيعة ليتقمصها بأحاسيسه داخل ذلك الفضاء.
تمازج الأزمنة والعلاقات داخل اللوحة بتجاوز أطر مساحتها لأن ترانغ يوظفها لمحاكاة التفاصيل اليومية والتفاعل معها كمعايش لها بطاقة البحث عن اللامرئي لابتداع الألوان وخلق النور من المساحات الداكنة حين يتراكم مع حواسه العنف الجمالي بمخيلته المتنقلة في تفاصيل اللوحة ومساحاتها ما يحيل على تداعيات البحث المكثف لاستبصارها في سرده اللوني وإيحاءاته الرمزية وتجاذبات الضوء المعلنة والمتراكبة داخل اللوحة حتى تراوغ العتمة واللون الداكن فتفتح منافذ تلامس الروح وغموض التفاعل المقصود بين الرسام ولوحته بين حنينه والمشاهد، بين الشخوص والتنوع الحركي.
المرأة في تجربته أيقونة محمّلة بالرموز حشد ملون في حضور الأنوثة والخصوبة مع الطبيعة والأرض للدلالة على تنوع دورها بين التربية والعمل والمجتمع تمازج يستبطن ذاتها داخل الهموم اللونية الفاتحة والداكنة ما يحيل على فلسفة صارخة بالحياة وبتمازج يكمن في النور والنار في الجسد والروح والرغبة والتوازن، التي مزج فيها بين الثقافات وأضاف رمزية التداخل والتمازج البشري حيث ألبسها ملامح فيتنامية وأكسبها خصوصية الانتماء.
احتوت لوحاته خصوصية تشبه مكنونه ودواخله التي تراءت في صياغات اللون لتكسب الأعمال شعرية مرتبطة بالمكان وبالإدراك البصري الذي لم ينفصل عما يدور في المخيلة المكثفة بالمشاهد، وعن تدافع الأمكنة وتراكم الصور لتكوّن نصا مفتوحا له علاقة مع التكوين المرئي والعلامات المرتبة برمزية تكشف المساحات اللامرئية التي تتفجر في عمق التفاعل مع تلك الأمكنة وهو ما يقود لحياكة الأسطورة التي تجادل الطبيعة في ترتيب جماليات الوهم والخيال والتعقيد والحقيقة.
*الأعمال المرفقة
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collection