يحتاج الغوص في تأملات اللون وهندسة الفكرة في أعمال التشكيلية السورية عناية البخاري إلى خيال للتمييز وحلم للإدراك من أجل التفاعل أبعد مع تلك الفكرة حتى يكون المنجز الفني قادرا على اختراق الواقع وابتكار منافذ أكثر أمل وحياة، لأن الطبيعة في أعمالها لا تقتصر على الشكل أو النقل بالتوافق والتطابق بل بالابتكار والانطلاق والاتكاء على التخيّل الحر والتجدّد التام معه، ليصل المدى الأبعد في شدّ المتلقي إلى أعمالها.
فقد خلقت تلك التأملات لعناية البخاري مساراتها الفنية، فحملت بصمة وهوية تفاعلت معها وفعّلت حضورها الأنثوي بجرأة مكّنتها من أن تتجاوز التصنيف لتخلق معه التميّز بالتقنية والخامة والمفهوم.
فالتطبيق العام للعناصر تجريبيا استطاعت به من أن تثبت ذاتها الفاعلة في التشكيل وتتحرّر من قيد المجتمع ومن قواعد الفن الجامدة لأنها تؤمن أن التجربة تخلق الفارق عند كل فنان قادر على أن يكون مجرد عابر في ساحة الفنون.
فلا يمكن التأمل في أعمالها دون الإحساس بذلك الثبات والتوافق بين عنادها كامرأة ومثابرتها وإصرارها كفنانة حافظت على استمرارها باجتهاد مضاعف وعزيمة حملت معها انسانيتها وهويتها وكينونتها وتجريبها للأسلوب والخامة مع الاستفادة من المخزون الهائل لموروثها الاجتماعي والثقافي الأدبي والفني الذي ساعدها على توظيفاتها البنيوية في الشكل والمساحة والهندسة والتناغم بين كل الأشكال مهما كانت أحجامها مكّنتها من التعايش الجمالي معا.
فبين الطباعة على الشاشة الحريرية وبين الألوان وتجاذباتها من الأكريليك إلى الزيتي وبين الهندسة والتجريد كانت لها علاقة مع خطوطها وأشكالها حمّلت لكل تلك الألوان علامات بصرية عالجت الحالات والانطباعات والمواقف دون أن تبتعد عن هويتها وموروثها حيث انتصرت بالحكاية وسافرت معها عبر الأدب كما أضافت لحضورها طبيعة مبتكرة وإيقاعات ثرية لامست انتمائها.
تكمن الجماليات التي تحاول البخاري إبرازها في مراعاتها لمدى اتساع المساحة للون واحتواء العلامة التعبيرية حتى تراقب عن كثب تلك التوافقات الحسية بينها لتفصح عنها تشكيليا برمزيات متعدّدة الدلالات والإيماءات.
تجتهد البخاري في التنقيب عن أمكنة جديدة على مستوى مساحات اللون فتعلي من بحثها عن الأشكال لتصل بها أبعد في احتواء الكون فهي تراقب حركتها وتستثير منطقها الحيوي في استمالة الضوء ونشره مع اللون لتكشف عن مستويات جديدة في اللون نفسه يكون مرنا في تناغماته ومنسابا أكثر مع دوره في المنجز الفني خاصة وأنها تجيد تثبيت الخطوط الدقيقة المتشابكة فيما بينها وبين المساحات الواضحة والضبابية والمتداخلة معا بين المربعات والدوائر وبين الأشكال التي تشير للعمارة.
نجحت البخاري في تجربتها في فرض فكرة التركيب دون أن تجعلها أساسها فكأن البناء موحّد ومتكامل كقطعة واحدة متماسكة إلا أنها حاكت تلك التوافقات كقصص بصرية عميقة ومترابطة تفرض التعمق والغوص للبحث عن المدلولات التعبيرية والمفاهيم الجمالية.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections