التأثر بالتطريز الفلسطيني في العمل التشكيلي من فكرة الموروث إلى جماليات الحضور صدق التعبير برمزيات الانتماء
كتبت.. بشرى بن فاطمة
التطريز الفلسطيني بعلاماته وألوانه يعتبر الرمز الأكثر حضورا في اللغة البصرية التي تعبر عن الذات والوطن في الفكرة الرابطة بين المكان والذاكرة والتاريخ والتراث ودلالات الوجود والانتماء في تجليات الإرث الحضاري التي يسردها التاريخ الفلسطيني، وما يتصل به من عناصر دائمة حاضرة مفتوحة على الواقع سواء في تقسيماته الجغرافية أو في صداماته السياسية، فالتعبير انتقل به من الجمود إلى الحركية التي أخرجته من مفاهيمه التقليدية لتعبر من خلاله عن أفكارها الفنية.
إذ أن للتطريز الفلسطيني خصوصياته التي تعكس الهوية والتراث والجغرافيا، فهو عبارة عن وثيقة تحكي فلسطين بكل فئاتها ومناطقها وتقاليدها ورموزها وقيمها التراثية التي تميز الأرض والطبيعة والمرأة بوصفها العنصر الخصب في الحياة إذ تعكس جماليات تفننها في التطريز الذي تزين به أثوابها مثبتة حضورها الأنثوي في الفعل والإنجاز والابداع، في الفرح والعطاء وهو ما حوّل فكرة التطريز إلى عنصر من العناصر المهمة والصاخبة المعاني في الفن التشكيلي الفلسطيني باختلاف مراحله وتطوره ونضجه وتفاعله مع الواقع وتشبثه بهويته.
فالتطريز تمكن من أن يخرج من جزئيات التعبير الرمزية في اللوحات إلى عنصر التجريب والتنفيذ في الإنجاز بالمفاهيمية التطبيقية التي تعاملت معه كخامة أساسية تخدم أفكارها.
وبالعودة لعلاقة المجتمع الفلسطيني بالتطريز، فإننا نلاحظ أنه لم يكن مسقطا على حضارته ولا تقليدا غريبا عن عاداته، بل هو إنجاز غارق في التاريخ فظهوره يعود إلى عمق الحضارة الكنعانية القديمة ومنها تطور مع الطبيعة والمكان والعادات والتقاليد ليصبح ميزة للمرأة التي أجادت من خلاله حياكة الفرح يدويا فقد عبرت المرأة الفلسطينية عن تفاصيل واقعها بالتطريز في أثوابها وتحفها وبيتها، في كل غرزة كتبت قصة وطن وفي كل لون وخيط وهندسة وشكل سردت تفصيل تاريخ دقيق وخالد.
ففي الثوب الفلسطيني مثلا يحتل التطريز الواجهة الأمامية والأطراف بأشكال ملونة تعود إلى التاريخ الكنعاني في خصوصية الألوان الحارة والداكنة أو اللون الأحمر وامتزاجه مع اللون الأسود في القماش، أما الخيط الأصفر فيعود لفترة الحروب الصليبية وعلاماتها وميزاتها، اللون البني في الخيوط يعبر عن القرية والتراب والطين واللون الأزرق يحيل على البحر، فكل مدينة لها خصوصية التطريز وعلاماته من النجمة إلى الصليب الشجر الحصان مع تقنية كل غرزة وهندستها التي تعتبر فنا ومتعة وذوقا يعكس جمالية بصرية وثباتا في المكان ورحلة مميزة بين المدن الفلسطينية تاريخا وذاكرة.
وقد اعتمده التشكيليون عنصرا من عناصر التعبير عن الهوية الفلسطينية ورمزا من رموز البقاء والمقاومة والصمود، كما في أعمال عبد الرحمان المزين، إسماعيل شموط، تمام الأكحل، زهدي العدوي، محمد الركوعي وسليمان منصور الذي يقول “إن فن التطريز كان أكبر ملهم للفنانين الفلسطينيين للتعبير عن الهوية”، غير أن هذا التراث المادي المميز للتاريخ والانتماء والأرض والحياة لم يقف عند الجغرافيا الفلسطينية ولا عند التشكيلي الفلسطيني فحسب، بل امتد بتلك الرمزية التي أكسبته العالمية وتحوّل إلى عنصر مادي أساسي في عدة أعمال فنية تشكيلية انطلقت منه كتعبير غارق في الأرض والتاريخ والهوية وسطعت به كفكرة إنسانية، عبرت عن الواقع بالتزام بمفاهيم التعبيرات الفنية كما بدا في تجربة التشكيلية الفلسطينية بثينة ملحم التي قدمت أعمالا مفاهيمية من خلال خصوصية الثوب الفلسطيني في التطريز والقماش والفنان الخطاط الفلسطيني فائق عويس الذي صاغ الخط العربي بفنية تطريزه فلسطينيا على القماش وكل مستخدمات الزينة في البيوت والتشكيلية الأمريكية سوزان كلوتز التي عبرت من خلال التطريز عن موقفها وعن الجغرافيا في مساحاتها المشحونة بالقلق والصدام.
في تجربة بثينة ملحم يجتمع التراث الفلسطيني بأشكاله المختلفة من الابرة والخيط والقماش إلى الثوب لتعبر بذلك التكامل عن الهوية والذات في المساحات التي تنفصل من الجغرافيا ولكنها راسخة في الذاكرة بكل علاماتها فالثوب وهو العنصر الرئيسي في عملها هو الجغرافيا أما بقية العناصر فهي الرموز التي ترسخ الروح الفلسطينية بتجلياتها الغارقة في التاريخ المتأصلة في الأرض والتراب.
فهي تجزأ القماش ثم تخيطه أو تشبكه بالدبابيس ثم تطرز مساحاته بألوان متعددة الدلالات فهي تصلب المساحة في الثوب كإشارة للمعاناة متعددة الجوانب نفسية ومادية فاعتمادها على ابر التطريز وخيوطه الملونة على الأقمشة المغموسة بالتراب أو الزعتر والقهوة والأصبغة المختلفة يخلق التحاما جمالي العلامات محلي الحضور يعمق فكرة الجغرافيا على القماش رغم كل تمزيقاته المقصودة إلا أنه متماسك أو يحاول التماسك بعدة عناصر منها الذكرى والذاكرة والهوية المشكلة في الأقطع المطرزة والمشبوكة بالإبر، فهي تجمع ذلك القماش في ترتيب بصري يلامس الفوضى في المفهوم في الكلمة العربية المطرزة في علاقة الخيط والابرة على مساحة القماش انعكاس يروض التوترات المتراكمة في تنقلاتها الحسية التي تنبعث على الأشكال التي تحاول أن تنفلت من تعقيدات المساحات ببساطة جمالية تحيل على عراقة المكان من خلال الخيوط والتطريز.
تعبر بثينة ملحم في رمزية الثوب والتطريز عن انتمائها لإرث ثقافي وفلكلور له مفاهيمه الغارقة في الأرض والحنين والماضي والجذور من خلال الجسد في خصوبة الحياة.
أما الفنانة التشكيلية الأمريكية سوزان كلوتز فقد التزمت في تجربتها الفنية بالقضية الفلسطينية وحملت كل ما يتعلق بتراث فلسطين في رؤية فنية بدأت من القماش والخشب والطين والحجر إلى فن التطريز من خلال مشاريع محملة بالعمق في الحكايات التي تبدأ من الإرث لتلامس واقع الانسان ومنها مشروعها “سبع نساء.. سبعة مفاتيح” الذي سرد التجاذبات التي تحكي المخيم في تفاصيله والهوية الفلسطينية في تراثها، من خلال التطريز الذي حاكته النساء بنثر دبابيس وخيوط ملونة على خارطة فلسطين كل جزء يحكي قصة التهجير وحلم العودة بين غصة التاريخ والحنين للجغرافيا بين الذاكرة والفكرة بين كل دمعة تخبئ ابتسامات جدارة البقاء.
فالعمل الذي خططته سوزان بالتعاون مع حرفيات فلسطينيات هو جدارية موحدة التفاصيل تقع على كوفية مقسمة بأجزاء من القماش، كل جزء فيه جانب مطرز بالعلامات والكتابات التي تحمل أسماء القرى والمدن والمخيمات الفلسطينية وخصوصياتها، تعبيرا عن الواقع وعن حق العودة.
من خلال هذا التناول المفاهيمي لفكرة التعبير بالتطريز حملت كلوتز تقنيات تريكيبية بأسلوب تجميعي بين القماش والخيوط والعلامات والتطريز بين الفكرة والإبر فالقطع تطرز ثم تحيكها في خياطة ثابتة متلاصقة بفوضى ونشاز يوحد الفكرة والمسافة في الفضاءات المسموحة والمغلقة بتكثيفات مشحونة تقف عندها الدبابيس بقسوة المنع وهنا تختلف العلامات وطرق الحياكة وألوان التطريز بشكل متداخل التنسيق مقصود الفوضى، فقد جمعت سوزان توافقات الإنسانية بينها وبين الحرفيات بين خيوطها وبين التطريز أبجديات الهوية والحضور والتشريد والأمل والعودة في محاولات لتطريز قصة وسيناريو الوطن بزوايا ذات بؤر مضيئة وتجاعيد شائكة في ثنايا كل غرزة تثبت الحياكة تفاصيلها.
في تجربة الفنان والخطاط فائق عويس التطريز هو علاقة تثير انبعاث الحنين والرغبة في ترسيخ الانتماء للأرض بذاكرتها للإنسان بانتمائه لفلسطين بكامل تكوينها روحا وشعرا ولغة وحضارة بساطة وعراقة تكمن في “لمسة أمي” وهي اقتباس بيت شعر من قصيدة محمود درويش “أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي”.
فقد حرص عويس الذي عاش مزدوج الهوية بين فلسطين والولايات المتحدة الامريكية حاملا حنينه ولغته ونضجه الفني على تثبيت رغبته في منح التطريز خصوصية تخلده في الذاكرة وتحوّله إلى رمز عالمي يشير إلى فلسطين بكل علاماتها الجمالية.
فبالتعاون مع مجموعة من الحرفيات الفلسطينيات قدّم نماذج فنية مطبوعة لتطريز الخط الكوفي بأشعار محمود درويش بالأساس واختيارات شعرية أخرى متنوعة، بألوان مختلفة وأقمشة وقطع نسيج متنوعة وعن هذه التجربة يقول عويس ” مشروع لمسة أمي هو جمع كل ما أحب في مكان واحد، فاهتمام الناس باللوحات التي عرضتها في رام الله ونفذت بالتطريز اليدوي الفلسطيني حمّلني مسؤولية إكمال التعبير وتخليد تراث فلسطين وذكرى والدتي التي عشقت من خلالها التطريز وأشكاله وعلاماته إضافة إلى تمكين النساء من فرصة المشاركة في التعبير الفني عن طريق الجمع بين الخط والتطريز والشعر وهو في حد ذاته ابتكار جمالي نموذجي سيكتمل بتحويل التطريز إلى لغة فنية عالمية”.
إن التطريز الفلسطيني غارق في تاريخ الأرض والحضارة بدلالات علاماته ورموزه وتعبيراته فهو ليس ترفا ولا هدرا للوقت، وليس مجرد زينة بل هو حكايات غارفة في الذاكرة في الوعي واللاوعي في الحضور والغياب في التعبير والصمت كل عناصره وموازينه تقدم رؤية فنية تتشكل بهندساتها وتنساق نحو العمق لتوغل في الحركة بحيوية تحمل معانيها على إيقاع الحياة والخلود والبقاء.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
صور من أعمال مشروع “لمسة أمي” للفنان فائق عويس