الاستشراق والمدن المقدسة .. بين فكرة التوثيق الفني والنقل الثقافي ومخططات الصدام
تنطلق الرحلة من القدس إلى بغداد، سيناء ومكة، عمان وبيت لحم، وعدة مدن لامست التاريخ الديني وقداسة الحضور الذي يعني الشرق بتفاصيله الملونة والمتنوعة من العين إلى الذاكرة عبر صور تنبش القلب وتداعب الروح وتغرقها في ماض يرشح حنينا وألوانا مخبأة في ظلال الذاكرة التي تنفلت ألوانها بين الأبيض والأسود وملامح مفقودة وأمكنة تتحدى الواقع وتحاول الصمود بثقة في قدسية حضورها، من خلال تأثير مختلف تبعثه مجموعة هائلة من الصور القديمة واللوحات الفنية عن تلك المدن.
صور التقطها رحالة ومستشرقون عبروا نحوها دون ضجيج ولكن مع إحداث صخب في مسارات الزمن وفي تناحر الثقافات المبطن والمباشر والمتفجر في كل توافق فكرة تحاول النفاذ نحو تأثير مختلف يتجاوز الثقافي والمعرفي والاستكشافي لتواجه تلك التداعيات التي تثيرها حركة الاستشراق التي اعتمدت الفنون والثقافة والصور لتعبر وتندمج داخل المجتمع الشرقي والتي ثبّتتها فوتوغرافيا التاريخ وحرّكت حدود الجغرافيا رغم أن الحركة ككل لم تلغ المقاصد الثقافية والتثاقف بشكل عام لكنها أيضا لم تنفصل عن حركة برمجت لتبحث في تفاصيل الشرق خاصة التفاصيل الدينية والتنوع الذي وسمها.
هذه الصور واللوحات جمعها “متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية” واحتفظ بها ضمن مجموعة “المستشرقين” التي تضمّ أكثر من 5000 صورة ولوحة عن منطقة الشرق إضافة إلى مجموعة “أجداد العرب” حملت المجموعات التفاصيل المختلفة للشرق فنونا حياة مجتمعا ودينا ومعالم.
أغرت المدن ذات التأثير الديني المقدس الكثير من المفكرين والرسامين والمصورين الفوتوغرافيين المستشرقين والرحالة الغرب لزيارتها والاطلاع على تفاصيلها الشرقية والمشرقة بطابعها الروحاني وعمقها الفكري الإنساني الذي جعلها مهدا لنشر الأديان بتنوعها وثلاثية فكرتها السماوية المقدسة، فلكل مدينة خصوصيتها التي تمتزج فيها كل تلك الديانات وتتشابك فيها العادات والتقاليد والملامح بين التوافق البشري في التعايش السلمي والتوافق في فكرة توحّد الأرض على مبدأ البقاء والحياة والمشاركة، وهذا التنوع هو الذي نقله المستشرقون للتعبير عن الانسان الشرقي كما بينت تفاصيل تلك الأعمال الفنية والصور، الطقوس بكل مناسباتها والعبادات والعادات، حيث تميزت بالعمارة والزخرف باللباس والزينة بالرموز والشخوص والتقاليد فمن القدس إلى مكة تفاعلت المدن بحضارة مكتملة وتفجرت بإيمان راسخ مع التاريخ بين شد وجذب في تنوع وحراك لا يفصل بقدر ما يمتن وهو ما أثار المستشرقين بلوحات متمزية وصور فتوغرافية حية وخالدة في تفاصيل غارقة في تصوير الواقع العام والتنوع في كل الخصوصيات صورت المساجد والنص الديني المكتوب بخط عربي مزخرف والكنائس والأيقونات المسيحية والألوان والنقش على الزجاج الملون والقماش والسجاد والمظهر العام للمصلين والحجيج بين ماسكي الالواح القرآنية والواقفين على الصليب، قداسة روحانية متراكمة التفاصيل إن دلّت على شيء فهي تدل على الانسجام والتنوع والتعايش، غير أن الظاهر يتجاوزه العمق الماورائي في تصوير التفاصيل التي انحدرت نحو أفكار أخرى فالاختلاف قد يخفي صراع وصدام قد يجلب تعاطف ومن هنا انبنت فكرة الاستشراق الاستعماري والتحكم في الشرق لأن التركيز على الدين حطّ من مكانة دين على آخر فبين وصف المسلمين بالمسيطرين على الشرق على أساس أنهم وحشيون حتى في عباداتهم يتحملون مشاق الحج وطقوسه القاسية في رحلات الحجيج القاتلة والمميتة التي صوروها في لوحاتهم عندما رافقوا الحجيج إلى مكة واعتبروا أنهم يخوضون رحلات قاسية يموتون فيها لأداء فريضة، وبين وصف الصراعات العرقية والطائفية بين المسلمين أنفسهم وكذلك التركيز على المبالغة في تقديس الأشخاص ورجال الدين وأولياء الأمور وحتى تقديس المدن والأولياء الصالحين، إضافة إلى محاولة إخفات صورة مدن مقدسة على أخرى مثل ما ورد من المستشرقين اليهود عن القدس حيث حاولوا أن يقللوا من أهميتها الدينية لدى المسلمين.
وقد انبنت مراجعهم ولوحاتهم وفنونهم على تصوير المسلمين بشكل قاس وحشي وسيء وتعمدوا إظهار جوانب مختلفة أو مستضعفة لفئات دينية أخرى كاليهود والمسيحيين بالتركيز على جوانب العبادة وهو ما يظهر في الملامح والجوانب العامة للمجتمع بينوا اختلافات وتناقضات دينية بين الاستعباد والانغلاق والتحجر والتحكم وبين الانفتاح ركزوا على صورة المرأة في الديانات بين المتدينة والجارية والمستعبدة في تناقض الحريم بخيال الحياة وعوالم ما وراء الستار والحجب.
فبين الإستشراق كفكرة والاستعمار كمخطّط، تكوّن مشروع متواز بتناسق مبطّن بين الفكرة والاكتشاف والهدف، حيث اهتم المستشرقون في البداية بالشرق الهوية الثقافية والتاريخ ثم تحوّلت رؤيتهم إلى الشرق “الجغرافيا” الشرق الثروة والشرق التنوع الديني الذي تحول لفكرة وإيديولوجيا وسلاح ذي حدين حوّل تلك الفكرة إلى صدامات خلقت التناحر والاثبات والتفرقة التي تجاوزت البقاء السلمي وهددت التعايش.
وإذا كان بعض المستشرقين قد اعتمدوا على الخيال وما كانوا يسمعون من أخبار وما يقرؤون من كتب وروايات عن مدن الشرق، فإن البعض الآخر كان يفضّل التحوّل إلى المنطقة للتعرّف المباشر على كل خصائصها ومميّزاتها وتنوعها بكل تفاصيله ليكون العين التي تراقب بتجسس وتبحث بعمق قد يخلق فكرة مختلفة الملامح، حتى ينقل صورة فوتوغرافية تعكس بفضول وبعمق وبقرب أهدافهم وغاياتهم التي قد تجاوزت المعرفة لتظهر مجتمعات متخلفة ومتناحرة ومختلفة.
ترسّخ الصور تفاصيل الماضي بنكهة ملوّنة بين العادات والملامح والطقوس الدينية التي تميّز الأمكنة الغارقة في تاريخها، مكان يعبر منه المارون إلى ضوء السماء فارين من عتمة الصراعات هو الانطباع الذي ينتاب من يرى الصور في عصرنا الحالي لأنه يقرأها بنوستاليجا تنطّق ذاكرة المدن لتقول أنا الوحي، أنا الألوان والبعث.
تثير فينا متعة التذكّر والخيال، حين تحقّق لنا رغبة التجوال في أحياء القدس القديمة أسوارها أبوابها أو دمشق ومساجدها أو الناصرة وبيت لحم وكنائسها أو بالملامح الثابتة بحنين يدفع حواسنا كي تستيقظ.
فللصور قدرة عجيبة فهي تنحت الأمكنة في المخيلة، وتخرجها من مادية المكان لتحوّلها إلى تفاعل روحي من الصعب توصيفه، لكنه يبقى خارقا حين يقتلعنا من مسطح الصورة ويزرعنا في عمق التاريخ.
لم يترك المصورون المستشرقون أثرا في تلك المدن ولا مكانا ولا ملامح إلا ونقلوها، اهتموا بالعمارة في صور المدن شوارعها أسوارها أبوابها ملامحها العامة طبيعتها بأزقتها وأحيائها ودورها طريقة الزخرفة والتزويق إضافة إلى تصوير الفضاءات العامة والساحات المناسبات العبادات الصلوات والحركة والأنشطة.
في تأمل الصور تمعن يتيح فرصة قراءة ضمنية عميقة واستحضار الماضي ما يجعلها إرثا قابلا للبحث والنبش في أصول الأفكار ومقارنات تداعياتها وتأثيراتها التي لامست الحاضر الاجتماعي والسياسي والعسكري.