الاستشراق والفن التشكيلي .. دعاية للشرق أم تأسيس أولى خطوات الهيمنة والصدام
– نقل واقعي أم خيال مبالغ في التزوير..
ظاهرة “الاستشراق” في الفن التشكيلي تعتبر من أكثر الظواهر الثقافية والتاريخية والسياسية، مدعاة للتأمل والدراسة والبحث، فهي ظاهرة قديمة لكنها متجددة الطرح، لم تنته “جدليتها” بين الشرق والغرب لأنها تمسّ حضارتين تقاربتا إلى درجة الصدام .
والاستشراق تجلى في عدة مجالات، لعل أبرزها الاستشراق في الفن التشكيلي حيث طرح نفسه بقوة، من خلال تسليط الأضواء على الشخصية الشرقية وملامح الحضارة الإسلامية والحياة اليومية والسلوكيات وصورة المرأة والرجل، الملبس العادات والتقاليد المهن الأسواق والطبيعة .
ولعل التعامل مع ظاهرة الاستشراق في الفن يقود إلى طرح عدّة إشكاليات تتمثل في طريقة تناول المستشرق للبيئة الشرقية وكيفية تعامله معها فنيا وأسلوب نقلها إلى بيئته وما خلّفه هذا من أدلجة للفن التشكيلي بتوظيف نفسي مختلف.
فهل شارك الشرق في “تنوير” أساليب التشكيل وصناعة اللوحة والصورة البصرية عند الفنان الغربي؟ وهل استطاع أن يقدم أجوبة عن “الأسئلة الإبداعية” التي مثلت محور “إشكالية” علاقة الفنان بثقافته الفنية وبمجتمعه؟ وهل الشرق عموما والحضارة العربية المجسدة بكل ما حملت ملامحها من روعة وسحر، هي مجرد تهويل وابتداع غربي؟ وهل طبيعة التطورات والمصالح أملت تلك الصورة الكولونيالية المبنية على الهيمنة والاحتلال إذا ما أخذنا طرح المفكر “إدوارد سعيد” في كتابه “الاستشراق وهل ينطبق ذلك على “الاستشراق الفني”؟ وهل عكس هذا النوع من “الاستشراق” ملامح الاحتكاك الثقافي التواصلي التنويري، أم الإستعلائي الإستنزافي “التزويري” الذي يخدم مطامع الغرب في التوسع والإستغلال والهيمنة؟ أكان من تلك الأغراض والمطامع أن يُقدّم بعضهم الشرق في صورة مازال أثرها باقياً حتى الآن، كرمز للجمود، والتخلف، والبداوة، والشهوانية، واللاعقلانية، والقهر، والاستبداد، في حين يتميز الغرب بالدينامكية والاطلاع والتنوير، العلم والتحضر، والعقلانية؟
وهل ما حمل الفنانين الغرب إلى الشرق من موقع الغازي، جعل البيئة الشرقية تقلب عددا منهم إلى مغلوب مقهور مهزوم أمام ثقافة الشرق، وفتنته وسحره؟ وما هو تأثير هؤلاء الذين لم يكونوا “مرتاحين” لثقافتهم الغربية فوجدوا في الشرق ما لم يستحسنوه عندهم حيث العلاقات الاجتماعية متوترة ومشكلات التطور الصناعي بادية فجذبهم الحنين الرومانسي إلى عالم بريء وغالبوا التأزم الذي أوهن الكلاسيكية المتأخرة، وقيّد من موضوعاتها وإبداعاتها؟ فهل نجح هؤلاء في استكشاف روح الشرق وتراثه، وشاعريته، وسحره الفني، ومبعث إلهامه، فأثرى “استشراقهم” الحركة الفنية على وجه العموم؟ ثم أي خيال سكن الفنانين الذين رسموا الشرق دون أن يزوروه؟
كانت معظم المواد التصويرية الأولى حتى القرن الثامن عشر رسوماً من الخيال، اعتمدت على نصوص العلماء الرحالة الذين زاروا الشرق بفانطازيا ساعدت في أن يساهم الاستشراق في توثيق هوية جمالية في الفن مختلفة عن المألوف والواقع بدت تجلياتها في وحدة “الفكر الجمالي” في الفنون الإسلامية وخصوصيته وإبداعاته تؤطر لثلاثية الإبداع الجمالي والأخلاقي والنفعي، كما لم تقتصر إبداعات الفنان ذو النزعة الشرقية على البصري الجمالي، بل غاص في الدلالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، التي تقف خلف الإبداع الفني التشكيلي، مما أدى إلي التعريف بثقافة عريقة كانت في المفهوم الغربي في تلك الفترة ثقافة همجية، كما عكس بعض مظاهر التلاقح الفني وبروز جمالياته في صلب الحضارة الأوروبية في عصر التنوير مما ساهم في إثرائها وتطورها.
شملت موضوعات النزعة الاستشراقية الفنية أغلب مظاهر الحياة في الشرق، من حياة السلاطين والأمراء والحكام، والحروب، ومعالم البيئة، والطبيعة، ورسوم الآثار، ونقوشها إلى مظاهر الحياة اليومية والأعياد والعادات والتقاليد وأسواق العبيد، ومشاهد الطرب فضلا عن الانبهار بعمارة المساجد والأسبلة والبيوت، والسجاد، والبسط، والأزياء الشعبية والزخرف.
وكان لإبراز مظاهر الحياة الواقعية بعيدا عن تلك المتخلية مع محاولة إضفاء الطابع الإنساني على الواقع الخارجي والبحث عن مكامن الجمال أثر كبير في تميز تلك اللوحات بالدقة والثراء والوضوح والتجديد، كما شكلت تلك الموضوعات الإبداعية سجلاً وثائقياً فنيا، وإطلالات على قراءة تاريخ وواقع الشرق بشكل بصري.
اهتم المستشرقون كثيرا بفنون العمارة المدن العربية الإسلامية القدس ودمشق وبغداد والقاهرة وبيروت والمغرب العربي وكثّفوا محاولاتهم في نقل جمالياتها وخصائصها المتميزة والفريدة ً في أعمالهم بإبراز الأنماط المعمارية الإسلامية من الأرابيسك والنقش والزخرفة الهندسية والألوان المزركشة في الفنون التطبيقية، وكان التواصل في فن العمارة والنحت في عهد “بونابرت” باديا في تزيين بعض الحدائق والجسور بالمسلات الغرانيتية، واستخدام فن الأرابيسك لتزيين جدران القصور تزيين رؤوس الأعمدة بأشكال زهرة اللوتس والنخيل أو شكل الأهرامات، واقتناء الأواني الخشبية والنحاسية والسجاد الإسلامي، وزراعة الحدائق بالزهور والنباتات المنقولة من البيوت المغلقة.
كما عابثت فكرة “الحريم” خيال كثير من الفنانين الأوروبيين كلما ذكر الشرق، بأنه أكثر تحررا من القيود الأخلاقية، مقارنة بأوربا المحافظة في ذلك الوقت حسب ما ذكره الكاتب الهولندي”يان دو هوند” الذي يضيف: “بعض الفنانين كانوا يريدون الهروب من القيود الجنسية المتشددة، وكانوا يرفعون من شأن الشرق ويعتبرونه مكانا تتوفر فيه حرية جنسية لم تصبها بعد قيود المحرمات الاجتماعية، فصار الشرق بالنسبة لهم جنة للحب المتحرر، مما جعل بعضهم أسرى حلم من يرى نفسه سلطانا محاطا بعدد من الحسان” وكان لبعض هؤلاء الفنانين محاولات للتغلغل في عمق ظاهرة الحريم، وتعرية هذا العالم، للوصول إلى الحقيقة، والبيوت المغلقة من الخارج، المفتوحة على فضاءات تطل منه السماء من الداخل، فقد نسخ “اوجين دي لاكروا” هذا الموضوع بأسلوب ينضح شاعرية ورهافة ورخاء زخرفياً شرقياً.
ونتج عن صعوبة الوصول لعالم المرأة الشرقية وغموضه محاولة الغوص في خيال تصويرها عارية انطلاقا من مخيال الروايات والحكايا وخصوصا حكايات ألف ليلة وليلة، فقد رسموا المخادع والحدائق والحمّامات، كما أن أكثر الجواري اللواتي كنّ موضوع لوحات الفنانين الذين لم تطأ أقدامهم الشرق قد رسمن اعتماداً على “تصورات ذاتية” مستقاة من أفكار “قالبية” تقف ورائها صور “الجواري الغربيات الأسيرات” أو اعتماداً على “موديلات” نسائية أوروبية وفى مراسم غربية، مقابل ذلك مثل “قبح الرجل” موضوعاً رديفاً لموضوع المرأة، فغالباً ما كان الرجل الشرقي المحاط بالجواري قبيحاً أو صارما حادا قاسيا، بلحية غير مشذبة، بينما الأنثى مرسومة وفق مقاييس جمالية مثيرة.
المرأة الشرقية “الحرملك” بين الخيال الفني والواقع
خرجت صورة حريم الشرق في الفن التشكيلي مختزلة لصور الشرق في الخيال الغربي ضمن حيز التعبيرات البصرية حيث اعتمد الرسامون على مخاطبة شعوبهم من خلال الرسم والصور وكانوا يركزون على ما ينقله الكتّاب والفلاسفة والرحالة في وصفهم “عالم الحريم” أو المرأة الشرقية، هذا العالم الذي كان من الصعب اقتحامه فهو فضاء البيوت المغلقة المحكومة بسلطة الرجال والعادات والتقاليد، ونتيجة هذا الغموض جعلت الغربي يسعى دوما إلى اكتشافه من خلال رسم المرأة الشرقية في لوحات قريبة من تلك اللوحات الغربية الكلاسيكية التي ميّزت الأعمال الفنية في عصر النهضة بأوروبا وما تلاها من فترات تاريخ الفن التشكيلي الغربي، حيث كنّ يرسمن كشخصيات دينية في بورتريهات الطبقة الرفيعة أو نساء عاريات على شيء من الحسيّة بالنسبة لعامة الناس، وهذا في حدّ ذاته ليس نقلا واقعيا مباشرا لصورة المرأة الغربية وإنما انعكاس عام لنفسية الفنانين الغربيين في تلك الفترة فتمثيل النساء على ذلك التصوّر كان إسقاطا لما يريده الرجل وتمرّدا على طبيعة المجتمع الغربي، فكانت صورة المرأة الشرقية وفق ذلك الإسقاط تحيطها قدسية جذابة ممزوجة بصورة غرائبية عن الشرق مع زخرف المكان وطبيعة الشرق، المكان العمارة الأبواب، الأزياء، الألوان، التنوع البشري(عربيات مسيحيات يهوديات أمازيغيات شركسيات إفريقيات)، فهي إما تصورات ذاتية معتمدة على موديلات مراسم روما و باريس ولندن، أو مغامرة ومشاهدة واقعية مشفوعة بالخيال المبالغ لذلك العالم بما أتيح وأمكن مثل ما جسّده الرسام الفرنسي “دي لاكروا” (1798-1863) بأعماله الشهيرة خاصة “نساء الجزائر”.
كما عكست اللوحات زخرف البيوت الشرقية وعوالمها المحاطة بالحريم مثل الحمامات العربية كلوحة “نساء عاريات تستحم”، أو “سوق النخاسة” للرسام الفرنسي “جين ليون جيروم” (1824-1904)
في أعمال المستشرقين تتراءى الشخصية الشرقية، مجزّأة بين رجل يملؤه العنف والغيرة، وامرأة مستضعفة، تتحايل على سلطة ذلك الرجل بالمكر والحيلة، أو بالفتنة والإغراء، فالمستشرق الغربي ركّز على تلك الرؤية، ضمن ثنائية التسلط والاستضعاف، وغطت هذه الثنائية مساحة واسعة من كتابات الغربيين وأعمالهم الفنية، متجاوزين أحيانا جوانب الحياة الشرقية الأخرى.
كتب “أوليفر غولد سميث”(1730-1774) المؤلّف الإيرلاندي، في رسالة إلى أحد أصدقائه في الشرق يقول فيها: “أخبروني أنه ليس في الشرق حفلات…بل هناك “الحريم”… كما أخبروني أيضاً أن نساء الشرق، هن أكثر نساء الأرض تجاوباً في علاقات الغرام”.
والكاتب الانجليزي “توماس مور”، كتب يصف الحياة الشرقية وفق مخيلته “عالم يغصّ بنساء ذوات عيون واسعة سوداء، يملؤها الحب والرغبة، لكنهن قابعات في أسر رجال أشرار،كما يغصّ بالولائم الفاخرة، والحرير والمجوهرات والعطور والرقص والأشعار”.
وفي بعض اللوحات خرج الفنانون المستشرقون بصورة المرأة من البيوت المغلقة وأسرار الحرملك ورسموها في الأسواق والأزقة، كما عبروا عن الواقع والاختلاف العام بين الطبقات الجواري والخدم، الأميرات،القرويات البدويات و العامة.
فن المستشرقين وفكرة الهيمنة الغربية
أثّرت الطبيعة الشرقية بمخزونها وعوالم شخوصها، على لوحات المستشرقين وتكويناتها مما أضفى عليها أجواء وجدانيّة ونفسيّة حاولت أن تخلق وعيا مختلفا عن واقع مختلف عن البيئة الغربية وهو ما جعل شخصيّة الغربي المستشرق تنشر رغبته في الهيمنة من خلال وعيه بإقامة منطقة متخيّلة في ضوء مضامين مألوفة أو غير مألوفة، وهذا أضفى على لوحات المستشرقين دقّة وثراء ووضوحا يشبه الواقع مع تجديد بصري وغرابة مدهشة وفق تصوّرات ذاتية عن الشرق ومع هذا لم يخف نقاط الضعف في المجتمع ومسألة التنوع التي تحوّلت من قوة وتوازن إلى خلل.
وقد كان للفن دور كبير في مساندة حملات التوسع الغربي في الشرق وتمثل دوره في إضفاء طابع إغراء وإشباع فضول ورغبة الغربي في معرفة سحر الشرق وتشويقه وكذلك نقل كل كبيرة وصغيرة تصف تفاصيل الحياة في الشرق وعقليات الأهالي وحياتهم بمختلف طقوسها باعتبار أن اللوحة التي تعتبر وثيقة دقيقة ومعبرة كانت بمثابة صورة أو التقرير الذي ينقل الشرق إلى عقول الغرب فقد قام نابليون أثناء حملته بجلب عدة رسامين معه قاموا بتجسيد حملته في لوحاتهم والمبالغة في تمجيده واعتباره المخلص .
وكان الرسامون يجوبون المناطق التي يزورونها بمختلف ملامحها انطلاقا من المدن إلى القرى الصغيرة وكان النظام العسكري يؤمّن لهم الحماية الكاملة حتى يدوّنوا في لوحاتهم العادات والتقاليد، والعمارة والفنون والطقوس والمهارات القتالية لتحاكي الأعمال الاستشراقية الواقع بلغة تشكيلية ومهارة مدهشة في فن التصوير مع شغف بالمكان يثير التفاني في الرسم والتماهي مع البيئة وقدرة في التقرّب من الأهالي والاحتكاك بهم ومعاشرتهم وهو ما جعل منهم عيون السلطة الغربية.
رغم كل الجدل الذي تثيره ظاهرة الاستشراق عموما والاستشراق الفني بالخصوص من هيمنة وطمس ومبالغة وخدمة غايات استعمارية لدعم تلك الهيمنة إلا أن اللوحات استطاعت أن تكون وثيقة فنية وجمالية بصرية مدهشة نقلت تفاصيل مختلفة من ملامح الشرق بدقة لا متناهية وبجمالية مثيرة للدهشة.
- لأعمال الفنية المرفقة من مجموعة “المستشرقين”متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
- المراجع: الاستشراق ادوارد سعيد ، الفن التشكيلي العربي عفيف بهنسي ،الاستشراق الفرنسي وتعدد مهامه خاصة في الجزائر الطيب بن إبراهيم