الاستشراق الفني بين التأثر بالشرق والتأثير على الرؤية التشكيلية العربية
كتبت.. بشرى بن فاطمة
لكل ظاهرة تتوغل في الفكر والمجتمع والثقافة والجغرافيا تأثيراتها التي توجّه مسارات الرؤى وبالتالي تحوّل دلالاتها التي تتفاعل معها لتنضج أفكارها فتأثر على الآخر الذي يتلقاها، وهو ما حدث مع ظاهرة الاستشراق التي كانت ومازالت تبعث على البحث والنبش والتعمق في خفايا تفاصيلها وجوانبها المختلفة والمؤثرة في الفكر الغربي من ناحية والفكر الشرقي ووعيه وثقافته من ناحية أخرى، وخصوصا في الجانب الفني والتشكيلي.
*جورج كيسلار
فلوحات المستشرقين وصورهم لاتزال حتى العصر الحالي تثير بشغف في حضورها سواء في المزادات أو المعارض والمتاحف أو في المراجع الفنية والنقدية، البحث والتطوير والنضج والتقليد والتقنية الكلاسيكية التي تنبش في تفاصيلها عن الأفكار والألوان والأضواء وتأثيراتها.
فقد تأثر أسلوب الرسم الغربي بثقافة الشرق وطبيعته وتطبع بتفاصيله وملامحه وتنوعه وغرابته التي مزجت بالخرافة والأسطورة والطرافة والسحر فالشرق الجغرافيا والثقافة الحقيقة والخيال تحوّل إلى شغف الحالمين والباحثين عن منافذ التعبير المفتوحة والشيقة والمبهرة.
*إليوت كاندي كلارك
أما الفن التشكيلي العربي فقد واكب في كل مراحل ظهوره وتطور وعيه ونضجه عدّة تحديات وتغييرات شكلية ومعنوية لامست المحتوى والمواضيع المعاصرة في أشكالها التي انطلقت من موروث الكلاسيكي وهويته وانتمائه وانطلاقاته الباحثة عن الظهور العالمي والتعبير عن الواقع والقضايا الأساسية والتأثر بالغربي في الذائقة الاستشراقية.
*نيقولاس سالم ماسكود
ولعلنا من خلال التركيز على الاستشراق لن نؤرخ له في العموم بقدر ما سنسلط الضوء على تأثيراته على مستوى الذائقة الفنية والتقبل بين الوعي الشرقي والتأثير الغربي من خلال المستشرقين والرسامين العرب الرواد وبالتالي سنحاول الإجابة عن تساؤلات هل أن الفن التشكيلي العربي استفاد إيجابيا من هذه الظاهرة ومن نواحيها التصويرية الشكلية والتقنية وهل يمكن أن يكون للاستشراق الفني أثره على التجارب الفنية التشكيلية في ظهورها ونهضة أسلوبها أم أنها كانت كأعمال مجرد تقليد في مراحل البناء الأولى للتجارب التشكيلية العربية.
*إدوين لانغسدون لانغ
الشرق والتعبير الفني
الاستشراق هو التيار الذي قام به بعض مفكري الغرب حين توجهوا بالبحث والنبش والمعرفة لمنطقة الشرق عن طريق الترحال والترجمة للوقوف على معالم الفكر والتاريخ والحضارة والثقافة كما عرفه الباحث الفلسطيني ادوارد سعيد في كتابه “الاستشراق” إذ حلّل غاياته وأوضحها كما سلط الضوء عليها من عدة نواح سياسية اجتماعية دينية وثقافية، فهو من وجهة نظره إسقاط غربي على الشرق بني على أسس التثاقف والبحث لكنه في عمقه هيّأ للاحتلال، ولم يستثن سعيد الجانب الفني الثقافي الذي قدّمه الرسامون الغرب عن الشرق ولا عن التوجهات التي حملت تطورات الرؤى الفكرية الغربية من خلال ملامح الشرق وهو ما جعل هذا التيار ظاهرة اختصت ثقافة وحضارة هذه المنطقة سميت استشراقا وتحمّلت جدلا كبيرا في فهم غاياتها.
*أميديو سيموناتي
وتعود فكرة الاستشراق إلى القرن العاشر الفترة التي شهدت بوادر لتكثيف الاهتمام بالشرق لغة وثقافة وتاريخا ومعارف وعلوم تبلورت حتى القرن التاسع عشر.
فقد أصبح الترحال إلى الشرق أمرا ملحا خاصة بعد القطيعة الثقافية التي نتجت بفعل الحروب الصليبية إذ حمل الاستشراق أهدافا عدة من بينها إخراج المجتمعات الغربية من قوقعتها الدينية وسلطة الكنيسة وتعويدها على الانفتاح والبحث عن منافذ النفوذ في العالم والاهتمام أكثر بالثقافات والعلوم والمعارف لتتحوّل فكرة الاستشراق إلى ظاهرة تاريخية حملت تفاصيل الشرق كمنطقة حفّزت الغرب على نهضته وفتّحت الاعين على خطط جديدة لتعزيز النفوذ السياسي والثقافي خاصة بعد حملة نابوليون فقد بدأ التنافس الفرنسي الإنجليزي على الشرق بين 1779 و1799 إذ انطلقت الرحلات إلى مصر وبلاد الشام والمغرب والهند لتتوالى بعدها حركة الاستشراق بين اليونان وإيطاليا و روسيا والولايات المتحدة الأمريكية.
*بول باسكال
إن أكثر ما ميز فترة الاستشراق هو الانفتاح الثقافي عن طريق الرسم واللوحات فقد حمل الرسام أكثر من دور ومهمة فمنهم من تنقل حالما بعد ما سمع من القصص المحكية أو شاهد في صور السفر التي تناقلها البعض لتتحوّل المشاهد الحقيقية إلى رؤى خيالية ثم إلى لوحات خاصة بعد ترجمة كتاب “ألف ليلة وليلة” ومنهم من اكتفى بتلك القصص وأطلق العنان لخياله دون أن يتكبد التنقل والتحول وقد تطورت مراحل النضج الفني التصويري عند المستشرقين فالجيل الأول كان حالما منبهرا هدفه خلق ذلك الشغف بدقة التصوير وتقمص التفاصيل لونا وأضواء وملامح وفضاءات وشخوص إذ حملت اللوحات غرابة وجرأة وخيالا ملونا في تفاصيل مكبوتة ومعلنة، الجيل الثاني حمل غايات الاستشراق وهي التجسس والمراقبة والبحث عن ثغرات واختلافات في كل تفاصيل الواقع الشرقي عادات وتقاليد ومدن وجيوش ورحلات حج وطقوس دينية وتنوع عرقي وديني والجيل الثالث حمل الواقع صورا حقيقية بعيدا عن الخيال مستفيدا من النهضة الفنية التشكيلية في أسلوب الرسم التعبيري الانطباعي والحداثي وطرق تحويل الضوء التدرجات اللونية.
*وليام فنسون
إن انبهار الرسامين المستشرقين بما سمعوا وقرأوا وشاهدوا فتّح أعينهم على أفق جديدة غير مكتشفة ومساحات تعبيرية أثرت مخيالهم الفني في انبعاثات القصص والحكايات التي أفرزت المناظر والطبيعة والملامح والتفاصيل في غرابة أسطورية، فارتسمت اللوحات على الهندسة الحالمة في تفاصيل الأماكن من الفضاءات العامة البناءات الدور الزخارف التزويق الأنهج العتيقة المدن القديمة والمقدسة العادات والتقاليد الأسواق المتاجر الأقمشة السجاد المقاهي المساجد والكنائس مظاهر الفروسية والخيل الصحراء التنوع العرقي والديني المعالم التاريخية والآثار، تجسدت في أعمال ميلار-كيسلار -رنست -إليوت كاندي كلارك – غوردن كاوتس- جورج بير- لادوينغ نيو -دي لاكروا.
*غوردن كاوتس
كما كان حضور المرأة المبالغ جسدا وحسا وشهوة بكل الانبعاثات أثار جدلا وشغفا بتلك اللوحات حيث رسمتها باختلافاتها وطبيعتها، تفاصيلها الشرقية تزويقية تزين محافل الطرب والخلوات ومتع السلطان في عالم الحرملك.
*أوسكار بورغ
التنوع العرقي والجهوي والديني التأثر بحريم القصص والروايات القديمة ورمزية المرأة بين الجمال والفتنة والدهاء والمكر والكيد قصص الحسان والجواري وسوق النخاسة إضافة إلى تصوير عالم المرأة شفافية الجسد وفتنه ألوانها زخارف فضاءاتها غرفها دورها، جسدها المغلف بالشهوة في حرير الأقمشة بعلاماتها وزينتها في الفرش والسجاد والحجاب والبرقع، فقد بالغ المستشرقون في رسم الجسد وتعرية تفاصيله المحرمة اعتمادا على موديلات غربية.
*أوجين دي لاكروا
إن فتنة النساء حملت المبالغة الايروتيكية كنوع من الشغف والشهوة ولفت النظر لسحر حمل العبق الغرائبي بكل تلاوينه، وبالتالي شد المتلقي لعالم مبهر بكل أحداثه وإغوائه.
شارلز قسطانتين
كما تأثر المستشرقون أيضا بالطبيعة باختلافها اللوني والضوئي بالتفاعلات مع مواسم الطبيعة وسطوع الشمس والضوء إضافة إلى تصوير الحدائق والحقول والصحراء بكل تفاصيلها الرومنسية الملهمة وانجذبوا للعمارة والهندسة والبناء والزخرف والخط العربي الذي أثر فيهم بشدة فحملوا تلك المعارف إلى بلدانهم وشكلوها على ذائقتهم في حدائقهم دون إغفال تأثرهم بالآثار الأهرام المسلات وغيرها كما التأثر بالمدن المقدسة ومعالمها مثل القدس والنجف بغداد بيت لحم مكة.
*رودولف ارنست
كما بدا في لوحات نيقولاس سالم ماسكود (1884-1972) اللبناني الأصل الذي تنقل في الشرق وحمله إلى الولايات المتحدة الأمريكية ألوانا وعبقا وحضورا ميّز المدن الشرقية أو ألفونس ايتيان دينات المستشرق الفرنسي الذي صور الجزائر بتفاصيلها الدقيقة خاصة بناءاتها وأزقتها، روجر مارسيل ليموز (1894-1990) الذي ولد في الجزائر واكتسب الخصوصيات الفنية من تفاصيلها وسطوع الأضواء وانعكاساتها اللونية بين الشمس وأشعتها والجدران وألوانها.
*مارتن بير
اللوحات التي قدمها المستشرقون لا تحصى فتفاصيلها اكتشافات بصرية تقنية وفكرية تعكس رؤى فنية كما تبرر فترة ظلامية كولونيالية حوّلت الاستشراق من فكرة تثاقف إلى خطة احتلال وبالتالي تجاوزت اللوحات الخطوط التعبيرية البريئة ومجرد تقديم وصف لمكان بكل انعكاساته غير أننا لا يمكن أن ننكر أن الاستشراق كتيار كان له أثره التقني على طريقة الرسم والتعبير والتعامل الحرفي مع اللوحة باستنطاقها وتفجير طاقاتها الحالمة والرومنسية للتعبير عن المكان والانسان بكل التفاصيل الدقيقة أو المتخيلة وهو ما اتبعه جيل الرواد في بعض التجارب التشكيلية العربية.
*ماتيلدا لوتز
التشكيل العربي الحديث وخصوصيات التأثر الاستشراقي
منذ مراحل التعبير الفني الأولى وظهور الفنون التشكيلية كدرجة وعي تعبيرية معاصرة في القرن العشرين اعتمد الفنانون العرب على حضور عدة ركائز من بيئتهم تراثهم وهويتهم وملامح من كل العناصر التي تكوّنها لإثراء المعنى البصري في اللوحة وخلق علاقة بينها تعبر عن الانتماء وتكوين الزخم التعبيري للرموز والعلامات.
*عمار فرحات
غير أن طرق التعبير تلك في بداياتها حاكت ما قدمه المستشرقون في بعض التفاصيل والمبالغات البصرية التصويرية إذ تبدو بعض الأعمال الفنية وكأنها استنساخ لما قدمه المستشرقون ولكن محملا بأبعاد اجتماعية نفسية فكرية فمثلا بدا واضحا تقليد “دي لاكروا” في رومنسية أفكاره في العديد من التجارب التشكيلية العربية.
إذ أن هيمنة النظرة الاستشراقية في الفن التشكيلي العربي في خطوته الأولى نحو الحداثة ظلت راسخة والتصقت بأبعادها طويلا بين تناقضات النبش في الهوية والتفاصيل الشرقية وبين التقليد وبالتالي انتشلت التجربة جوانب الترنح بين الإيجابية والسلبية بين الذات والانسلاخ فبين اللوحات الجادة في خوضها تفاصيل الشرق ولوحات تزيينية تعيد فلكور النموذج الاستشراقي تحوّلت النظرة للفنون خصوصا بعد الاستقلال وأصبح التعبير والخوض فيها أكثر حرية وتخلصا من قيود العادات والمجتمع والدين كفكرة التحريم أو تجاوز التعبيرات الجسدية أو الاكتفاء بالتعبير عن طريق اللغة في الخط، فغرق التشكيلي في رموز استشراقية بشكل متعمد باحث عن جرأته في الخيال وفي الجسد في الطبيعة والعادات فبين حرفية التقنية وسذاجة التقليد حاول التشكيلي العربي إلغاء قيم البحث عن الفكرة في رمزية الصور التراثية الجاهزة الصحراء والجمال والبداوة والخيول والزينة واللباس والمرأة بعالمها وفضائها.
*حاتم المكي
فأغلب التجارب العربية بدأت باعتماد الفكرة الاستشراقية في الفن مثل التجربة التونسية والمصرية والعراقية والسورية.
*محمود سعيد
فمثلا نشأة الفن التشكيلي الحديث في تونس لم تنفصل عن الرؤية الفرنسية الكلاسيكية الحالمة في التعبير عن الشرق فبدا تأثيرها واضحا على الصياغة الفنية لعدة تجارب تشكيلية رائدة في تونس كانت تركز على عناصر الرسم الاستشراقي كموديلات جاهزة تعبر عن تونس بدهشة استكشافية أو بتصور فلكلوري كما ظهر في تجربة كل من عمار فرحات وحاتم المكي.
فاللوحات عكست الفهم الاستشراقي في فكرة الرسم لمختلف تفاصيل البيئة والحياة والعادات وفق التصورات الاستشراقية الغربية فقد بحثت في عمق مثارات الخيال والإبهار والدهشة للمتلقي الذي ليس بغريب عن المكان ولكنه سيقع فيه بحنين خيالي التعبير رومنسي الأطر فالتشكيلي تقمص دور المستشرق الذي يفتش في تفاصيل لا يعرفها بخياله وأحاسيسه فالمبالغات الخيالية الحالمة والرومنسية والتأثير الفرنسي خلق جمهورا متابعا رأى في الفن زينة وحلما واسترجاعا لنوستالجيا المكان وقد استمرت تلك التجارب في تونس بالرغم من أن فرنسا وأوروبا ككل كانت تشهد نهضة فنية وتحولات متمردة في التعبير التشكيلي المعاصر.
حاور التشكيليون العرب الاستشراق بلمساته التي اهتمت بالزخرف والطبيعة بالمكان بالمرأة بالفنون الشعبية والتراثية بالحكايات والأساطير مثل محمود سعيد من مصر الذي رغم طابعه المصري الدقيق والمميز تأثر بالفكرة المفصلة بجرأة لونية وتصويرية في التعبير الاستشراقي فقد عبر عن كل الملامح والأماكن بدقة التفصيل والعادات والمحتوى والوجوه وقد حوّل عالم المرأة إلى تماه كامل في طقوسها ورموزها وعالمها المليء بالسحر والأسطورة.
رغم النظرة الاستشراقية التي ترسخت في ذهنية الرسام العربي والتي تعتبر مجرد إجابات جاهزة كخيال وواقع عالج الرؤى البصرية التشكيلية بمحدودية إلا أن التشكيل العربي تنوع في تقمص واقعه والتعبير عنه وعن الانتماء والهوية فكل تلك العلامات والرموز الشبيهة بلوحات المستشرقين كانت تعبيرات حقيقية تمكن العديد من الرسامين من تجاوزها حتى تكون وثيقة بالغة الوصف والحنين لأن الغاية الأولى التي دفعتهم إليها هي الانتماء الغارق في تفاصيل الذات والمكان.
بشرى بن فاطمة
*الاعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية “مجموعة المستشرقين”
Farhat Art Museum Collections
*صور لوحات: عمار فرحات-حاتم المكي-محمود سعيد من مواقع الفن على شبكة الانترنت