بقلم/ ليلى موسى
كثيرة هي الاستراتيجيات التي تتبناها الدول لإدارة بلدانهم ودولهم للوصول بهم إلى بر الأمان، وتحقيق الرفاهية لشعوبهم ومنافسة الشعوب والبلدان الأخرى في سباق بمجالات العلوم والاقتصاد والصحة …إلخ، لذلك نراهم في حالة بحث دائم لابتكار استراتيجيات، وتكتيكات، وأدوات تلبي تطلعات شعوبهم والتغييرات الحاصلة. وهذا ما تفتقده غالبية بلدان الشرق الأوسط، إذ مازالت تعمل بكل ما أوتيت من قوة وإرادة لتطبيق سياسات واستراتيجيات عفا عليها الزمن، ولم تجلب لبلدانهم سوى التخلف والدمار والحروب والكوارث، بل تعمل هذه الدول على اجترار تلك السياسات بحذافيرها من دون أن تمررها للفحص إذا ما كانت تناسب طبيعة مجتمعاتها وعصرها أم لا.
الإصرار على هذه الوسائل غير المجدية، والعقلية المتحجرة والتمسك بها كاستراتيجيات وسياسات مقدسة، والحفاظ عليها وكأنها من التابوهات التي لا يمكن لأحد الاقتراب منها أو مجرد التفكير في تغييرها، أدت بأصحابها لأن يكونوا من أشد المدافعين عنها، وفي نفس الوقت يدَّعون محاربتهم لتلك الدول التي رسمت حدود بلدانهم المصطنعة. ويأتي هذا من منطق الحفاظ على السيء خوفاً من الأسوأ القادم، بدلاًمن التفكير وابتكار حلول واستراتيجيات تناسب واقعهم ومجتمعاتهم والتخلص من سيطرة وتبعية الأخر ووضع حداً لتدخلاته وتبعيته.
تلك العقلية أنتجت شخصيات شرق أوسطية نمطية مستنسخة اجترارية. حيث عمل زعماء الشرق الأوسط على استنساخ تجارب سلطات وحكام اعتمدوا استراتيجيات وسياسات فاشلة؛ تفتقد إلى المنطقية والحقيقة، فلم تجلب لهم سوى الأزمات والانتكاسات بسبب المنهجيات والسياسات القائمة على أسس قوموية ودينية.
دفعت الشعوب التي لم تقبل الخنوع الحكومات والسلطات الأوروبية إلى التصالح مع الذات؛ بحثاً عن مكامن الخلل بغية إيجاد بدائل، وإن لم تكن بالمستوى المثالي للديمقراطية والعدالة، إلا أنها كانت السبب والسبيل للخروج من بعض المشاكل والمآزق المستعصية. ومع استمرار نضالات الشعوب ومقاومتهم التي لم تكن سهلة؛ بل كانت محفوفة في الكثير من الأحيان بالمخاطر والتضحيات الجمة، مما جعل تلك الاستراتيجيات والسياسات في بعض جزيئاتها تلبي طموحات وتطلعات الشعوب، فاستردوا بعضاً من حقوقهم المغتصبة على مدار عقود من الظلم والاضطهاد. بالفعل تمكنت تلك المجتمعات من إجبار حكوماتهم على تغيير سلوكها، وبالتالي مساهمتها في تطوير مجتمعاتها من كل جوانب الحضارة الإنسانية. بالمقابل سعت وتسعى حكومات ودول الشرق الأوسط القيام بالدور الوظيفي الموكل إليها بتطبيق تلك السياسات والاستراتيجيات بشكل حرفي وتأطيرها عبر منهاجهم التربوية؛ وتخريج أجيال يحملون ثقافة العنصرية والكراهية والمذهبية؛ والانفصال عن حقيقة وجوهر الشرق الذي مدَّ البشرية بأرقى أنواع العلوم والثقافات والفلسفات القائمة على الإخاء والتعايش والتعاون، الشرق المبدع والمنتج والمبتكر، الذي لم يبخل يوماً بعطاءه وانتاجه.
ففي كلتا التجربتين –القوموية والدينية- وعلى مدار من عقود من الزمن أثبتت تلك التجربتين فشلهما وعدم ملائمتهما مع طبيعة مجتمعات الشرق الأوسط المتشكلة من فسيفساء متنوعة من الاثنيات والمعتقدات، وطبيعة التطورات والتغييرات التي تعيشها المنطقة. فالدول القومجية عدوة التنوع ولم تجلب للمنطقة سوى الصراعات والحروب والكوارث وما زالت، وأما الدينية عبر إرجاع الزمن إلى 1400 سنة إلى وراء، وفق ايديولوجية تخدم فئة معينة، ونسخة مشوهة لحقيقة الإسلام، محققين بذلك انفصالاً بين الزمان والمكان والفكر، وبالتالي خلق حالة من الانفصال والاغتراب عن الواقع والمجتمع؛ لأنه يستحيل العودة بالزمن إلى الوراء والعيش في كنفه، متناسين التطور الفكري والحضاري الذي انتجته الإنسانية والبشرية؛ وأصبح جزءاً من النسيج الذهني والروحي للبشرية.
فكانت النتيجة قيام ما يسمى بالربيع العربي. ومن الأصح تسميته بربيع الشعوب والذي انتشر كسرعة البرق لتوافر العوامل الداخلية والخارجية، والذي شمل العديد من دول الشرق الأوسط. البعض تمكن من إحداث تغيير شكلي في الأنظمة دون المساس بجوهره، والبعض الآخر تحول من نظام قومي إلى ديني إخواني؛ والنظامان يتبعان نفس العقلية المنهجية الاقصائية والعنصرية التي تقم على رفض الأخر. فالنظم القومية تمجد العرق الواحد، والدينية تمجد المعتقد الواحد، والاثنان يعاديان التنوع ويحاربان كل ما هو مختلف، ويرفضان الشراكة والتعايش، فكانت النتيجة استمرارية الأزمة وتشرذم المجتمعات وتخلفها وبقاء الشرق الأوسط في حالة غليان.
مع بقاء بعض الدول التي ساعدتها الظروف الدولية والإقليمية بالبقاء والتمسك بكرسي السلطة؛ ليس لنجاعة حكمها وصدق منهجيتها واستراتيجياتها ومشروعها السياسي؛ إنما لعدم نضوج الظروف الخارجية والموضوعية. وكما هو معلوم وخاصة إذا كانت بعض الدول تتميز بأنظمة ديكتاتورية مستبدة لا يمكن حدوث تغيير فيها ما لم تتكامل العوامل الخارجية والداخلية مع بعضهما. ويمكن عدّ سوريا نموذجاً، بالرغم من نضوج عواملها الداخلية والخارجية، ولكن التغيير إلى الآن لم يكن متماشياً مع أجندات ومصالح بعض الدول المتدخلة فيها.
بعد عشر سنوات من الأزمة السورية وما خلفته من تداعيات التقسيم والاحتلال والتهجير والنزوح والفقر؛ ومع تواجد ثلاثة أنواع من الأنظمة المطروحة للخروج من الأزمة. الأولى والمتمثلة برأس النظام الحاكم مثل جميع الأنظمة الاستبدادية، والتي تُرجع جذور الأزمة على أنها مؤامرة كونية فتعاملت بهذه العقلية مع الأزمة، وهي عقلية الاقصاء والقبضة الأمنية. وحتى هذه اللحظة يعتبر النظام السوري نفسه على حق ومعركته من أجل ضرب هذه المؤامرة والعودة بسوريا إلى ما كانت عليه. حيث الشعب السوري الذي كان يستبشر بعض التفاؤل والأمل بعد إداء القسم الدستوري بتغيير نهجه بالتعامل مع الأزمة؛ والتقرب منها بشكل موضوعي ومشاركة بقية السوريين للخروج من هذه الأزمة، لكن مع الأسف كان ظاهراً وواضحاً في ” خطاب القسم” الإبقاء على حالة الفوضى والأزمة، لكسب مزيداً من الوقت للبقاء على كرسي السلطة. عندما دعا أبناء العشائر العربية وتجيشهم في المناطق الشرقية ضد بقية المكونات مع تأكيده بأن الظروف لن تسمح للحكومة السورية بتقديم أي دعم لهم، وإن الظروف الدولية غير مساعدة للقيام بأي عملية محتملة في المناطق الشمالية الشرقية من سوريا، وهو يعلم علم اليقين بأن أبناء تلك العشائر تفتقد إلى جميع المقومات التي تؤهلهم لمحاربة قوات مدربة وتمتلك من الخبرة والعتاد والتجربة وخاصة في دحر الإرهاب.
بينما المشروع الثاني الأخر والمطروح من قبل المعارضة أو ما يسمى بالائتلاف ذو الخلفية الإخوانية والمرتهنة لدولة الاحتلال التركي والممولة قطرياً؛ مناطق سيطرتها مرتعاً للإرهاب وتفريغها لا تختلف عن النظام بشيء، وهي تصارع من أجل السلطة أيضاً وبنفس العقلية والمنهجية، وإن كانت الأولى يطغى عليها طابع قومجي بينما الثانية تلونت بالصبغة الدينية.
والمشروع الثالث هو مشروع كلاً من مجلس سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية في شمالي وشرقي سوريا؛ الذي تبنى فلسفة الأمة الديمقراطية والذي عماده التعايش السلمي، والتعاون، وأخوة الشعوب، والاكتفاء الذاتي، والاقتصاد المجتمعي، والإيكولوجيا. منذ الأيام الأولى من الأزمة تعاملت هذه الإدارة بحكمة وتأسست بمشاركة جميع مكوناتها بمختلف طوائفهم وأثنياتهم، واتخذت من مبدأ الدفاع الذاتي نهجاً لحماية مناطقها. وبفضل تضحيات أبناءها تمكنت من الحفاظ على نسيجها الاجتماعي وتحقيق الأمن والاستقرار النسبي مقارنة مع المناطق السورية الأخرى. واستطاعت دحر أعتى التنظيمات الإرهابية من خلال مشاركة جميع المكونات.
مشروع يتخذ من العلمانية ومبدأ المواطنة وثقافة التآخي نهجاً له، انطلاقاً من متطلبات وحقيقة مجتمعهم القائم على التنوع، وإيماناً منهم بأن الحل يجب أن يكون سورياً وبمشاركة جميع أبناءها عبر حوار حقيقي وجدي يحترم إرادة جميع الشعوب؛ على خلاف المشاريع الأخرى التي تبث التفرقة والاقصاء. أبناء الشمال والشمال الشرقي الذين وجدوا تمثيلهم في هذه الإدارة احتضنوا هذا المشروع لإيمانهم العميق بحقيقته، وأنه هو السبيل لنجاتهم إلى برّ الأمان، وتمكنوا بإرادتهم الحرة من الحفاظ على مكتسباتهم وتماسك إدارتهم بالرغم من جميع الهجمات والتهديدات التي تعرضوا لها.
هذه الإدارة وبفضل انجازاتها ومكتسباتها أثبتت بأنها الأفضل وحافظت على أهدف الثورة السورية، مما دفعت بالعديد من الدول بإعادة النظر في حساباتها تجاه القوة المحلية التي تتعامل معها.
وبالرغم من الاقصاء الممنهج للإدارة، ومنع مشاركتها في المنصات والاجتماعات التي تبحث في الأزمة السورية، إلا أن الإدارة في طريقها لنيل الشرعية والاعتراف السياسي من قبل دول لها حضورها وثقلها في الأزمة السورية. مؤخراً وبناءً على دعوة رسمية من الرئاسة الفرنسية تم الاجتماع مع ممثلين عن الإدارة الذاتية ومجلس سوريا الديمقراطية؛ تم فيها التباحث مع كيفية الخروج من الأزمة وضرورة مشاركة ممثلين عن الإدارة ومسد في الحوارات والاجتماعات الخاصة بالأزمة السورية. طبعاً، الكثير حاول إخراج هذه الخطوة من مضمونها وتشويهها على أنها اعتراف بتقسيم سوريا، لكن في حقيقة الأمر الاعتراف الذي تتطلع إليه الإدارة ليس التقسيم ولا اقصاء الآخر، بل على العكس تماماً هي دعوة للمشاركة مع بقية السوريين ومن كافة الأطراف في سوريا المستقبل؛ والحفاظ على الثوابت التي قامت عليها الثورة السورية بالحفاظ على السيادة السورية شعباً وأرضاً؛ وتحرير جميع الأراضي المحتلة.
لكن الملفت للنظر من خلال متابعة التطورات السورية أن أكثر نقطة تم الاتفاق عليها بين الدول الضامنة لاستانا هي محاربة الإدارة الذاتية. رأس النظام السوري وبعد أداء القسم الدستوري أعلن عن محاربة الإدارة، وتأليب الشعب عليها. ومن جهة أخرى انزعاج تركيا وأدواتهم في الإئتلاف من اللقاء الذي جرى بين الرئاسة الفرنسية ووفد من شمالي سوريا، يثبت بما لا يدع مجالاً للشك بأن هذه المعارضة لا تحمل أية مشروع وطني بقدر ما تنفذ الأجندات التركية.
وانطلاقاً من المعطيات الموجودة؛ بمقدورنا القول أن سوريا مقبلة على سنوات أكثر حدة وبشكل خاص على الصعيد الاقتصادي، بسبب العقلية الاقصائية للنظام السوري والمعارضة المرتهنة للخارج والفاقدة للإرادة. وعدم وجود حاضنة دولية للمعارضة الوطنية التي يمكن التعويل عليها، بالإضافة إلى عدم إدراج الأزمة السورية ضمن أولويات الدول الفاعلة، وهي لم تصل حتى الآن إلى تفاهمات فيما بينها. لذا، ستعمل العديد من القوى والدول سواء النظام أو المعارضة ومن خلفها تركية بالعمل على إثارة المزيد من النعرات الطائفية والدينية والقومجية للإبقاء على الصراع لأطول فترة ممكنة. فخروج سوريا من هذه الأزمة أما أن تكون بمشاركة جميع شرائح ومكونات المجتمع السوري؛ أو الإبقاء على إدارة نهج أحادي الجانب من قبل النظام بعقليته القومجية؛ أو المعارضة بنهجها الإخواني. وهذا يعني إبقاء سوريا في مستنقع المشاكل والأزمات لعشرات السنين المقبلة.
لذا؛ وحتى نصل بسوريا إلى برّ الأمان وإنهاء معاناة شعبها يتطلب من الشعب السوري عدم الإنجرار إلى هكذا ألاعيب والعمل على الحفاظ على السلم والنسيج الاجتماعي؛ والوقوف في وجه هكذا ممارسات التي ستفتح المجال أمام عودة الإرهاب بكافة أشكاله ومسمياته. والأهم هو التكاتف بين الجميع لتحرير الأراضي المحتلة؛ والعمل معاً لأجل سوريا المستقبل. سوريا لكل السوريين.
*ممثلة مجلس سوريا الديمقراطية لدى مصر