الإنسان كائن تشكيلي.. 1
كتب.. محمد عكاشة
التشكيل في حقيقته جوهر ومعنى، قبل أن يكون مظهرا يرتكن إليه الإنسان لينهل من بصريته وفلسفته وظواهره، والتشكيل ليس مجرد تقنية أو علم وضعت له نظريات أكاديمية فحسب، بل هو حياة أو بالأحرى أساس الحياة، تطورت بتطوره، وارتكنت عليه معظم العلوم الأخرى فى مسيرة تطورها، واذا بحثنا عن دوره فى وضع النظريات العلمية لمعظم العلوم القديمة والحديثة، سنجد أن للتشكيل الدور الأبرز في التخطيط والتصميم والتنفيذ، والتشكيل مرتبط ارتباطا وطيدا بالإنسان منذ بدء الخليقة، خلقه الله بداخله، فكما علَّم أدم الأسماء علمه أيضا التشكيل، فهو قرين التفكير والتخيل لا ينفصل عنهما، هو ذاكرته التي بلا شك عبرت عن معتقداته وعاداته وموروثاته.
وفى هذا البحث أرصد بعض النقاط ـ التي من الجائز أن تكون مختلفة ـ والهدف منها البحث عن مكامن التشكيل بداخلنا، ومنها أن الإنسان كائن تشكيلي، شكَّل الله من الصلصال على هيئته هذه، وبث فيه من روحه، وشكَّل الطبيعة والحيوانات والطيور وكل الكائنات وسخرها له، وأعطاه ملكة التشكيل لتستمر الحياة، فالعين عدسة مصورة، والعقل نيجاتيف أو هارد أو ممورى ملىء بمشاهد ومناظير مختلفة ومتنوعة، طبقا لأهميتها وتسلسلها فى الذاكرة لتقوم بدورها في عملية التفكير، ويتجلى ذلك في الأحلام عندما تتشكل المشاهد الواقعية وتمتزج بالخيال، أو عندما تتحاور مشاهد مختلفة فى الزمان والمكان والأحداث، ككولاج للوحة فنية تعبر عن مكنون النفس البشرية، أو عندما تتسريل لترسم حالة فلسفية تحتاج للبحث والتفسير، ويتجلى أيضا في الأحلام والكوابيس والرؤيا في المنام، فترسم النفس البشرية وتستعين من مخزونها البصرى والسمعي، دراما تشكيلية لا تنفصل عن أمنيات الإنسان وصراعاته وأهدافه، فتطفو الصور وتتحرك وتتناص وتتشكل وترمز متكأة على الهارد، أو المخزون البصرى الحساس الذى يقدم صوره للنفس طبقا لاحتياجها الحقيقي والملح، فيقدمها بدرجات لونية طبقا لإحساس صاحبه، ويقدمها أيضا بزوايا مختلفة طبقا لاحتياج هذه النفس، فتعيش الصورة بداخلنا كشاهد على الحياة.
وهى ليست في حالة ثبات بل متحركة، وتحتل أماكنها طبقا لدورها في هذه الدراما، سواء أكان دورها هذا ثانويا أو رئيسيا، والعقل يساهم بشكل كبير فى إعادة رسم الصورة، وأحيانا يشكلها أسطورية أو خرافية أو خيالية، ويتخير عناصرها المساعدة، وقد ارتبط التشكيل بمراحل تطور الإنسان، فالعقل أدرك التشكيل كحلول لا غنى عنها في كيفية العيش، فقد شكَّل الإنسان السهم للصيد، والوعاء للطهى، والجدار والسقف للحماية من الطبيعة وتقلباتها، والفأس والبلطة للقطع، والجلود للارتداء، وشكَّل ورسم ودَوَّنَ على الجدران، وصمَّم وابتكر وشكَّل الآلات ليؤكد أن التشكيل ترجمة عملية لأفكاره وأهدافه.
ولأن التشكيل غريزي قبل أن يكون مكتسبا، فهو داخل كل منا بنسب متنوعة تتناثر داخل النفس البشرية على هيئة علوم مختلفة، ويكون التشكيل وسيط بينها.