الأتراك لا يثقون بالغرب ويعتقدون بأنهم يتعرضون لمؤامرة ولا يؤمنون بقضية القس سبب الأزمة
يصر البيت الأبيض على أنَّ الخلاف المرير بين واشنطن وأنقرة سيُحَل إذا أخلت تركيا سراح القس الأميركي المحتجز، لكنَّ هناك من يرى بأن المشكل أعمق وهو مرتبط بمؤامرة أمريكا لإضعاف تركيا . وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
ويقول عمر كيليج (43 عاماً) لصحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية، من وراء خزينة متجر له لصنع الحلوى في أنقرة إنَّه يؤمن بوجود دوافع أعمق في النزاع بين البلدين الحليفين بحلف شمال الأطلسي (الناتو). ويقول: «أميركا لا تريد دول قوية في هذه المنطقة من العالم. لا يريدون لتركيا أن تكون قوية».
وقد شجَّع رجب طيب أردوغان، الرئيس التركي، نظريات المؤامرة هذه، تقول الصحيفة البريطانية، بعدما أشار إلى أنَّ قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بفرض عقوبات على بلاده هي محاولة «لإخضاع تركيا والشعب التركي، لأخذنا رهائن».
لكن الأمر ليس مقتصراً على مؤيدي الرئيس التركي فقط
فبداية من الصحيفة اليمينية التي طالبت بإغلاق القاعدة الجوية الأميركية، وحتى البرلماني اليساري الذي ادَّعى هذا الأسبوع أنَّ المطالبات بالإفراج عن القس المحتجز أندرو برونسون لم تكن سوى حجة من «الدول الإمبريالية» للسيطرة على تركيا، يعم شعور الغضب وانعدام الثقة الطيف السياسي بمختلف ألوانه في تركيا.
من السهل أن يضحك غير العليمين بالشأن التركي على مثل هذه الأحاديث، لكن لهذا جذور عميقة في التاريخ التركي. فقالت أسلي آسلي أيدنتاشباش، كاتبة الرأي في صحيفة Cumhuriyet التركية المُعارِضة، إنَّ انعدام الثقة في القوى الأجنبية متأصلٌ في السردية الوطنية التركية.
وأضافت: «تسري الشكوك في دوافع الولايات المتحدة عميقاً جداً جداً، ليس فقط بين المواطنين، بل وبين المسؤولين أيضاً». وتابعت: «يستمر الناس في سؤالي: بالتأكيد كل هذا ليس بسبب برانسون، إذاً ما الذي يحاولون عمله حقاً؟ لكن لتفسير الوضع -وتوضيح أنَّ الولايات المتحدة لا تدير العالم- فهذا ليس بالأمر البسيط وتقريباً مستحيل بسبب الحمولة الثقافية والتاريخية التي تقترن بكونك مواطناً تركياً».
وانعدام الثقة في القوى الأجنبية مُنغرِسٌ بعمق في الوجدان الوطني التركي
تركيا الحديثة هي قوة إقليمية يبلغ تعداد سكانها 81 مليون نسمة وصاحبة ثاني أكبر قوة عسكرية في حلف الناتو. لكن كل مواطن تركي يتعلَّم أنَّ دولته لم تعد لمكانتها أبداً.
ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى، خطَّطت القوى الأوروبية لتفتيت الإمبراطورية العثمانية المنهزمة. ولم تظهر تركيا بالصورة التي نعرفها الآن إلا بسبب حرب الاستقلال التي قادها ضابط الجيش مصطفى كمال أتاتورك.
وانعدام الثقة في القوى الأجنبية مُنغرِسٌ بعمق في الوجدان الوطني التركي، لدرجة أنَّ له اسمه الخاص، «متلازمة سيفر»، التي أُسمِيَت على اسم المعاهدة التي خطَّطت تفكيك الإمبراطورية العثمانية لكن لم تُقَرّ أبداً.
تنصب الشكوك التركية على مجموعة متغيرة من الدول. لكن المحللين يحددون عاملين رئيسيين هما السبب في زيادة انعدام الثقة العامة في الولايات المتحدة.
لكن لماذا تزداد انعدام الثقة؟
الأول هو قرار وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) بتسليح ودعم الأكراد في الحرب الأهلية الدائرة في سوريا المجاورة من أجل قتال جهاديي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). يقول المسؤولون في أميركا إنَّ هذه الخطوة جاءت بعد التلكؤ التركي في تقديم بديل عملي. لكن في أنقرة، نُظِر إلى هذه الخطوة باعتبارها خيانة.
وهناك روابط معقدة تربط بين وكلاء أميركا وحزب العمال الكردستاني، الذي يشن تمرداً دموياً على الأراضي التركية منذ أكثر من 30 عاماً وينظر إليه الشعب التركي على نطاقٍ واسع باعتباره تهديداً وجودياً.
ويقول عمر تاشبينار، الأستاذ بكلية الحرب الوطنية في واشنطن: «لطالما كانت المجادلة بتلقي حزب العمال الكردستاني دعماً عسكرياً من الولايات المتحدة مجرد مؤامرة. لكن الآن.. أصبح وجود تعاون وتوافق بين الولايات المتحدة وأحد فروع حزب العمال الكردستاني في سوريا حقيقة».
مصدر الغضب التركي الثاني هو محاولة الانقلاب العنيفة التي هزَّت الدولة في يوليو/تموز 2016. فهناك اعتقاد منتشر منذ وقت طويل في تركيا بأنَّ الولايات المتحدة لها يد على الأقل في بعض الانقلابات العسكرية الأربعة التي حدثت بين 1960 و1997.
وحقيقة أنَّ رجل الدين فتح الله غولن المتهم بكونه العقل المدبر لانقلاب 2016 يعيش في ولاية بنسلفانيا الأميركية أدَّت إلى تعزيز مزاعم التورط الأميركي في المحاولات الفاشلة.
قال نيكولاس دانفورث، مؤرخ في مركز أبحاث Bipartisan Policy Center في واشنطن، إنَّه لا يوجد أي دليل على أنَّ الحكومة الأميركية دعمت أي انقلابات عسكرية في تركيا دعماً فعَّالاً، لكن أضاف أنَّها «بالتأكيد سايرت» الانقلابات التي نجحت في الماضي.
خاصة بعد الانقلاب الفاشل
لدى الكثيرين من المسؤولين في حزب أردوغان الحاكم، وكذلك الرأي العام الأوسع، قناعة بأنَّه في حال كان انقلاب 2016 نجح في التخلص من الرئيس، فإنَّ الولايات المتحدة كانت ستساير هذا الانقلاب أيضاً.
تقول سوزي هانسن، مؤلفة كتاب Notes on a Foreign Country الذي يتناول إرث الانخراط الأميركي في الشرق الأوسط: «يؤمن الناس من خلفيات مختلفة للغاية -من الأكاديميين اليساريين وحتى مؤيدي أردوغان- بنسبة 100% أنَّ الأميركيين كانوا متورطين».
لكن للأميركيين بدورهم قائمة من إخفاقات أنقرة
ولدى المسؤولين الأميركيين قائمتهم الطويلة الخاصة من الإخفاقات والإهانات من جانب أنقرة. لكنَّها لا تُعار اهتماماً يُذكَر في تركيا. وفي المقابل، استطاع أردوغان أن يصبغ خلافه الأخير مع ترمب بصبغة قومية.
وبمساعدة الإعلام التركي الطيِّع الذي ينسج القصص المليئة برهاب الأجانب ومعاداة السامية ونظريات جامحة، حمَّل الرئيس التركي مسؤولية تراجع الليرةللعقوبات الأميركية، بدلاً من المشكلات الهيكلية للاقتصاد التركي. واتهم الولايات المتحدة بمحاولة القيام بـ»انقلابٍ اقتصادي».
وعلى الرغم من هذا الخطاب المشحون، تستمر الدولتان في التعاون خلف الكواليس في مجالات مختلفة، بدءاً من مكافحة الإرهاب وحتى مكافحة المخدرات. ويصر المسؤولون في أنقرة على أنَّ تركيا لن تغادر الناتو أبداً.
لكنَّ المحللين يخشون من أن يُذكي الصراع النزعة المناهضة للولايات المتحدة بدرجة يصعب السيطرة عليها من جديد. يقول علي أوزومجو، وهو عامل بناء متقاعد: «رأى الجميع ماذا فعلوا في الانقلاب العسكري الفاشل في 15 يوليو/تموز. ويحاولون الآن شن حربٍ اقتصادية».