الآثار الإسرائيلية تكشف كيف عاشت أكبر قرى العالم قبل 9 آلاف سنة
في سهل خصب على ضفاف وادي سوريف بين أربعة ينابيع غزيرة، وتحت ما كان يسمى إلى ما قبل فترة قصيرة “منعطف موتسا”، كانت هناك قرية زراعية في ذروتها يعيش فيها 2000 – 3000 نسمة. السكان الأوائل عاشوا على زراعة متنوعة وغنية، وأقاموا علاقات تجارية متبادلة مع ثقافات تبعد مئات وحتى مئات آلاف الكيلومترات عنهم، من شاطئ جنوب البحر الأحمر وحتى الأناضول. حفريات إنقاذ الموقع التي بدأت قبل 17 شهراً، وتجري على أيدي مئات العمال، كشفت عن قرية زراعية تمتد على مساحة 300 دونم. هذه قرية من القرى الأكبر التي وجدت من تلك الفترة، إذا لم تكن أكبرها.
حفريات الإنقاذ من المقرر أن تنتهي بعد بضعة أشهر، وعندها سيتم دفن أجزاء كبيرة تحت شارع 16، الشارع الجديد على مدخل القدس. أمس عرضت سلطة الآثار المكتشفات الكثيرة التي دفنت حتى الآن في الموقع، والتي تشمل مئات آلاف البذور للحبوب والبقوليات وأدوات العمل والكثير من الهياكل العظمية لحيوانات، منها عدد من الدلائل على تدجين الأغنام التي اكتشفت حتى الآن.
د. حمودي خلايلة الذي يدير مع د. يعقوب فاردي الحفريات في الموقع من قبل سلطة الآثار، قال إنه كان من المعروف في السابق أن الموقع استخدم كقرية من العصر الحجري المتأخر. وحتى قبل ذلك. مع دلائل على وجود الإنسان في الموقع قبل 20 ألف سنة. ولكن قبيل بداية أعمال التطوير للشارع الجديد تم فحص المنطقة بعناية، والأبعاد الفريدة التي للقرية تم كشفها.
أسرار الطين الأحمر
د. فاردي قال إن جدران البيوت بنيت من الطوب الطيني الذي لم يصمد. ولكن أساسات الجدران كانت من الحجارة المنقوشة التي مكنت الباحثين من استرجاع المبنى الدقيق للقرية. سكان المكان كانوا يسكنون في أماكن منفصلة، قال د. خلايلة، التي قسمت كما يبدو حسب الحمائل. بين الأحياء ثمة شوارع رئيسية مرصوفة بحجارة الوديان التي يمكن رؤية مسارها بشكل واضح من الأسوار الحجرية التي اكتشفت في الحفريات. وحسب د. خلايلة، فإن الارتفاعات المختلفة للبيوت تدل على التركيبة الهرمية الاجتماعية للقرية. بيوت رؤساء القرية كانت أوسع، والأرضية كانت مغطاة بطين باللون الأحمر الذي لم يكن في منازل الأشخاص العاديين. “بصورة مخططة بأيدي رؤساء القرية”، قال د. خلايلة. البنية الاجتماعية لسكان القرية غير معروفة حتى الآن. لكنه يشير إلى أنهم وجدوا عائلة واحدة تتكون من الأب والأم وولدين.
إضافة إلى ذلك، وجد الباحثون مباني عامة مختلفة، فيها مبنى استخدم على ما يبدو للعبادة. وحسب د. خلايلة، أساس المكتشفات الدينية التي اكتشفت في الموقع تناول عبادة الآباء والزعماء مثلما في مناطق أخرى في أرجاء الشرق الأوسط ومنطقة الهلال الخصيب. وعالم الآثار قال إن الشخصيات المهمة في القرية جرى دفنها تحت البيوت بصورة مؤقتة. وبعد ذلك جرى إخراج الهياكل العظمية والجماجم ثم تزيينها وفق نماذج مصنوعة من الحجارة التي وجدت في الموقع. عدد من الجماجم وضع، والعيون مفتوحة، وعدد منها وضع بعيون مغمضة، التي -حسب أقوال د. خلايلة-تدل على مناصب مختلفة نسبت لكل جمجمة.
قال عالم الآثار إنه باستثناء النماذج الحجرية التي استخدمت في عملية التحنيط، لم يجد من يحفرون في “تل موتسا” جماجم محنطة. ولكنه قال إنه من خلال حفريات أخرى في قرية من تلك الفترة وجدت جماجم محنطة لرجل وامرأة وشخص مثلي – هذا برهان على أن قيادة القرى الأولى لم تكن حكراً على الذكور فقط. الاكتشاف الآخر الذي وجدت أمثلة كثيرة منه في الموقع هو نوع من المسطرة المعلمة بعدد متغير من الخطوط.
معلومات زراعية متطورة
تصنيف الاكتشافات الأثرية –للحيوانات والنباتات– ما زال في ذروته. حتى الآن نجح الباحثون في فحص ربع ما جرى اكتشافه. من بين هذه المكتشفات، يقول د. خلايلة، إنهم وجدوا مخزناً فيه 400 بذرة للعدس، ومخزناً آخر فيه 80 ألف بذرة للفول و40 ألف بذرة للحمص، ومخازن للقمح والشعير. وقد تم تشخيص عظام أبقار شبه مدجنة إلى جانب أبقار مدجنة تماماً. هذه المكتشفات ترافق أبحاثاً حديثة للجينات نشرت عن تدجين الأغنام (قبل سنة تقريباً) وتدجين الأبقار (في الأسبوع الماضي). يظهر أن الحيوانات المنزلية دُجنت في أماكن مختلفة بصورة شبه منفصلة: بعد التدجين الأول الذي تم -كما يبدو- في جبال زوغرس في إيران (الآن) فإن عدداً من هذه الحيوانات وصلت إلى أماكن مختلفة في الشرق الأوسط، ولكن بعد الانتشار الأصلي، فإن جينات هذه الحيوانات المدجنة اختلطت مع دي.إن.إيه حيوانات برية محلية، وخلقت عقدة التدجين التي نجح الباحثون في الكشف عنها، في السنوات الأخيرة، بمساعدة أدوات وراثية متقدمة.
حسب أقوال د. فاردي، شملت الحيوانات المنزلية لسكان القرية الأبقار والضأن والخنازير، لكنهم اشتغلوا أيضاً في صيد الحيوانات البرية في محيطهم، مثل الظباء والغزلان والأرانب والذئاب والثعالب. ومن أجل الصيد، استخدم سكان القرية رؤوس سهام صغيرة وجد معظمها في الحفريات، ورؤوس سهام أكبر، ربما استخدمت بالفعل كرؤوس للحراب. قال د. خلايلة إن ضربة سهم كهذا لم تكن تستطيع قتل ظبي، لذلك اعتاد السكان في المكان على دهن رؤوس السهام بالسم الذي استخرج من النباتات الموجودة في المنطقة.
“ووجد الباحثون أيضاً الكثير من الفؤوس والحراب التي استخدمت للصيد وتقطيع اللحم. ووجدوا وعاء طحن اعتقدوا في البداية أنه استخدم لطحن الحبوب. ولكن فحوصاً للمواد العضوية التي وجدت في الوعاء، بالميكروسكوب، أشارت إلى أنه استخدم لطحن اللحم (نسخة مبكرة من الكبة)”، قال د. خلايلة. هل استخدمت هذه الأدوات ضد بني بشر آخرين إلى جانب استخدامها ضد الحيوانات؟ قال د. فاردي إن القرية بشكل عام لم تكن محصنة. وأضاف أنه حتى الآن لم يتم العثور على أي دلائل لضربات في الهياكل العظمية التي عثر عليها أثناء الحفريات في المكان. ولكن حسب أقواله، لا يمكن استبعاد احتمال أن عدداً من السكان ماتوا بسبب طعنات أو ضربات مشابهة.
بالإجمال، قال د. خلايلة، هناك تواصل في وجود القرى في المكان بين الأعوام 7000 – 5400 قبل الميلاد. القرية في ذروتها صمدت نحو 300 – 400 سنة إلى أن فرغت. عالم الآثار المخضرم قال إن الباحثين بشكل عام يميلون إلى ربط مغادرة القرى بالتغيرات الإقليمية. ولكنه غير مقتنع أن هذه هي الحال هذه المرة، ضمن أمور أخرى، بسبب الظروف المثالية في السهل، والقدرة التي أظهرها السكان على حفر آبار المياه وجمع الغذاء لأوقات المحل.