اكتشف الكنوز الأثرية الخفية في المملكة العربية السعودية
لا تزال مدائن صالح من المناطق الأثرية غير المعترف بها في نظام السجل الأثري، بسبب الأوضاع الجغرافية والسياسية والدينية في المملكة العربية السعودية. ولكن سيتمكن العالم عما قريب من استكشاف المعالم التي تميز هذه المنطقة الأثرية الرائعة.
الداخل مفقود والخارج مولود
في ليلة مظلمة وعاصفة، كانت الرمال الناعمة تزحف عبر الطريق المؤدي من المدينة المنورة إلى العلا، حيث تمتد الصحراء على جانبي الطريق الذي توجد فيه بعض أعمدة النور المضاءة. عبَر الرحالة المغربي ابن بطوطة هذا الطريق سنة 1326 ميلادي راكباً أحد الجِمال، وقد كتب عن قساوة هذه المنطقة الصحراوية قائلاً “الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود”.
يحكي الروائي الإنكليزي نيكولاس شكسبير لصحيفة The independent البريطانية رحلته للمنطقة الأثرية
لقد سافرت إلى كل المدن “المفقودة” في البتراء وماتشو بيتشو وأنغكور وات، قبل أن يدمرها السياح للمرة الثانية على التوالي. وهذه المرة، كانت وجهتي وادي الصخور الرملية التي أشاد بها الشاعر والرحالة تشارلز داوتي الذي كان أول رحالة أوروبي يزورها سنة 1876. وحول هذه الزيارة يقول داوتي: “لقد جئت من بلاد بعيدة إلى الجزيرة العربية للبحث عن مدائن صالح الرائعة”.
حماس لم يسبق له مثيل
بسيري على نفس خطى دواتي، شعرت بحماس لم يسبق لي أن عشته منذ أن كنت في العشرين من عمري. وقد أشاد توماس إدوارد لورنس بكتاب دواتي بعنوان “الصحراء العربية”، الذي اعتمده فيما بعد ككتاب تعليم عسكري، ليكون أعظم كتاب عن المغامرة والسفر باللغة الإنكليزية.
معترف بها دولياً وغير معترف بها محلياً
بدأ الأمر عندما حاول داوتي الدخول إلى مدائن صالح متنكراً بهوية أحد الحجاج السوريين الفقراء. وإلى حد هذا اليوم، لم يزر الكثير من الأوروبيين مهد هذه الحضارات المنسية. على الرغم من أنها صنفت ضمن مواقع التراث العالمي سنة 2008، إلا أنها لا تزال غير معترف بها في نظام سجل الآثار الوطنية بسبب الأوضاع الجغرافية والسياسية والدينية في المملكة العربية السعودية.
جوهرة التاج السعودية لم يزرها سياح من قبل
سألت مرشدي السياحي أحمد، “عن عدد السياح الأجانب الذين زاروا هذا المعلم الأثري خلال السنة الماضية، فأخبرني بأن أحداً لم يزره من قبل”. وفي شهر يوليو/ تموز الماضي، وبمبادرة من ولي العهدالسعودي الجديد، محمد بن سلمان، تكفلت اللجنة الملكية بالإشراف على كل من مدائن صالح والمناطق المحاذية لها. ويقول أحد علماء الآثار، الذين يسعون إلى التنقيب عن هذه الموقع، “إنها تعتبر جوهرة التاج الوحيدة التي تمتلكها المملكة العربية السعودية”.
في ديسمبر منع السياح من زيارة المنطقة؛ أولاً من أجل إجراء دراسة استطلاعية لمعانية المكان، ومن ثم وضع إستراتيجية لحماية الموقع الأثري، وبذلك ستصبح مدائن صالح متاحة لجميع الزوار. وقد كانت زيارتي الأولية فرصة لاكتشاف هذا المعلم، حسب تقريره في الصحيفة البريطانية.
على الطريق من دمشق للمدينة المنورة
عند طلوع الشمس، كان أحمد يرافقني عبر الأبواب المقفلة، مروراً بخط السكك الحديدية الألمانية التي تربط دمشق بالمدينة المنورة، التي قام لورنس العرب بتفجيرها، (حيث لا تزال بعض القبائل المحلية تطلق اسم “الأوران” (أو العوران) على أبنائها) وصولاً إلى المقابر النبطية الصخرية المشهورة.
من البتراء إلى مدائن صالح
سمع تشارلز داوتي عن مدائن صالح لأول مرة في البتراء، على بعد 300 ميل شمالاً. وقبل خمسين سنة من الآن، انبهر أحد القادة البحريين البريطانيين وهو يحدق في كنوز البتراء الخالدة في ذهول. وهمس القائد، كما لازال يفعل العديد من الزوار، قائلاً: “لا شيء في العالم يشبه ما أراه الآن”، لكنه كان على خطأ. وعلى الرغم من أن مدائن صالح تعد أقل بهجة مقارنة بالمعالم الأخرى، إلا أنها قادرة بدورها على خطف الأنظار، حيث ترتفع المباني ذات الواجهات المزخرفة من قلب الصحراء المسطحة، الواحدة تلو الأخرى.
وقد تم نحت 111 مبنى على الجبال الصخرية على ارتفاع أربعة طوابق، بينما زُيّنت مداخلها الصغيرة في القرن الأول ميلادي من قبل عمال بناء من الإسكندرية، بمثلّثات يونانية، وأعمدة رومانية وزهور فارسية، إلى جانب مجسم أبو الهول المصري فضلاً عن عدد من الطيور. وفي هذا السياق، قال المرشد أحمد إن: “مدائن صالح تعد بمثابة توأم البتراء”، الفرق الوحيد هو أننا كنا سنكون وسط ازدحام الحشود خلال زيارة البتراء.
وخلال وقوفنا بمفردنا في صمت، على ضفاف الوادي، تذكرت ردة فعل الفنان الفيكتوري، ديفيد روبرتس، الذي مد العالم بأول صورة لمدينة البتراء. فعند رؤيته لتلك المدينة، قال: “تركت المدينة، حتى بعد مغادرتها، في نفسي شعوراً لن يفارقني ما حييت”. لقد نحتت هذه القبور التي تعود للقبائل النبطية التي حكمت هذه المنطقة لمدة 300 سنة إلى أن استولى الرومان عليها سنة 106 بعد الميلاد. وسيطر الأنباط، وهم البدو الذين استقروا وتمكنوا لاحقاً من جمع ثروة هناك، على طريق التوابل المدر للمال، والذي يمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأحمر.
رحلت القبائل النبطية وبقيت آثارهم
وعلى غرار تلك الحضارات التي سبقتهم كمملكة دادان، ومملكة لحيان، وأخيراً قوم ثمود، تلاشت القبائل النبطية لتُصبح من الماضي. وقد سُلبت مقابرهم، حيث نُهبت الأبواب المصنوعة من خشب السنط من أجل الحطب، وصُهرت التماثيل الرخامية لصنع الجير من أجل الجبس، كما حُطّمت الجرار التي صنعت من حجر الرخام السماقي. كل ما تبقى من مدينة القوافل، مدائن صالح، هو ساحة مسطحة خلف سياج من الأسلاك. وفي هذا السياق، كتب دوتي: “تحولت شوارع مدائن صالح المبنية من الطين إلى غبار متناثر في الصحراء”.
كما شهدت المملكة التوراتية الأقدم، دادان، والتي تقع على حافة إحدى الواحات على بعد دقائق قليلة بالسيارة، الدمار نفسه. وعموماً، تعد زيارة كلا المعلمين فرصة للاطلاع على السياق التاريخي لهذه الحضارات التي مازال البحث فيها متواصلاً حتى الآن. وحتى القرن العشرين، كانت قصص هذه الحضارات منحوتة على الصخور إما بالخط النبطي أو الثمودي.
هناك، قادني أحمد بين اثنين من المنحدرات الوعرة إلى أحد أقدم النقوش، التي كُتبت منذ ستة آلاف سنة. وفي الأسفل، وجدت حفرة مربعة الشكل وسط أرضية صخرية كانت سابقاً مكاناً تُقدم فيه القرابين منذ عهد مملكة دادان. ومن المرجح أن أحمد كان يتحدث في السجل التاريخي عن ذلك التجويف حين قال: “كانوا يقدمون القرابين لإله واحد، يعرف باسم ذو غيبة، أي “الشخص الغائب”.
في الصحراء، نحتت الريح لنفسها آلهة ورموزا هيروغليفية غامضة. كان المشهد رائعاً. وفي البتراء، التي تشكل جزءاً من الكتلة الجبلية ذاتها، عجز ديفيد روبرتس عن وصف جمالها، معتقداً أن الحطام والآثار المتبقية “تغرق في اللاأهمية بالمقارنة مع هذه الصخور الهائلة”.
آثار العلا.. حضارة قديمة وقصور حجرية
كانت العلا “دادان” مركزاً تجارياً بارزاً على طريق القوافل القديم، كما عُرفت بنشاطها الزراعي.
وكانت التجارة القادمة من إفريقيا وآسيا وجنوب شبه الجزيرة العربية التي تحمل التوابل والعطور والبخور، تتجمع في العلا القديمة.
ولموقعها المميز، خضعت العلا لسيطرة 4 حضارات قديمة؛ هي: دادان، ولحيان، ومعين، والأنباط، في تاريخ يمتد إلى القرن السادس قبل الميلاد، وتركت هذه الحضارات آثاراً لا يزال بعضها باقياً حتى الآن.
تضم العلا منطقة الحجر أو مدائن صالح والتي تعتبر متحفاً مفتوحاً، يضم آثاراً حجرية قديمة تمثل أماكن العبادة ونقوشاً صخرية، وهي آثار تُنسب لقوم ثمود والحضارة النبطية، وتوجد فيها مدافن مدائن صالح التي يعود بعضها لما قبل الميلاد، وتضم كذلك قصوراً صخرية مميزة ومعبداً نبطياً منحوتاً في الصخر أيضاً.
وفي العلا أيضاً مجموعة من الآثار، بعضها يعود للحقبة العثمانية، مثل قلعة الحجر التي بُنيت 1375، وسكة حديد الحجاز التي كانت تربط الحجاز بالشام وصولاً إلى عاصمة الدولة العثمانية إسطنبول.
وتوجد كذلك قلعة موسى بن نصير التي أقام فيها القائد العسكري الأموي، وتعتبر أقدم مباني العلا، حيث أنشأها الأنباط في القرن السادس قبل الميلاد.
وفوق هضبة صحراوية بالعلا، توجد البلدة القديمة المبنية بالحجر والطين، وتعتبر حالياً منطقة أثرية خالية من السكان، لكن لا تزال تحتفظ ببيوتها القديمة ومنازلها ومساجدها وأسواقها القديمة.
وتعتبر الساعة الشمسية “الطنطورة” أحد معالم العلا التي تُستخدم لحساب الوقت اليومي وتمييز الفصول الأربعة، ولا تزال صالحة للاستخدام حتى اليوم.
قصص قديمة تعود للواجهة
فجأة، أصبحت قصص عمرها آلاف السنين مكشوفة للعلن، في حين تمت إماطة اللثام عن اكتشافات تحيل إلى سلسلة من المواقع، قد تكون أكثر أهمية من مدينة البتراء الأثرية نفسها. وكان المرشد السياحي، أحمد الإمام، الذي رافقني خلال رحلتي، أفضل ممثل لماضي العلا ومستقبلها، حيث يرجع نسبه إلى مجموعة كبيرة من الأئمة ينحدرون من قبيلة ضخمة وصلت إلى المدينة القديمة في العلا سنة 1400 ميلادي.
وبالعودة إلى هذه المنطقة المهجورة في سنة 1983، السنة ذاتها التي شهدت ولادة أحمد، اتخذت هذه المنازل الطينية والشوارع المتعرجة التي تشبه المتاهة محل مملكة دادان ومدينة الحجر. وقد تم بناء هذه المنازل والشوارع باستخدام الحجارة من أنقاض تلك المدن، التي يمكن اعتبارها بمثابة حصن قديم.
يقودنا أحمد إلى شارع فارغ، ليرينا المنزل الذي كان يسكنه والداه. وقد كانت عوارض المنزل منهارة، وانتشرت فيه أقفاص مقلوبة رأساً على عقب. لقد أراني المسجد الذي أقيم على الموقع الذي توقف فيه النبي محمد، صلى الله عليه وسلم في سنة 630 بعد الميلاد. وقد استخدم عظام ماعز ليرسم على الرمال الاتجاه المؤدي نحو المدينة. وقد كان عم أحمد الإمام الأخير في المنطقة.
ويعتبر كثير من رجال الدين في السعودية أن زيارة مدائن صالح (ديار قوم ثمود) مكروهة، إلا لغرض العظة والاعتبار، باعتبار أن قوم ثمود أصابهم العذاب بعد تكذيبهم للنبي صالح وقتلهم الناقة المعجزة التي أتى بها، ويحكي القرآن قصة قوم ثمود وتكذيبهم لنبيهم صالح وعذابهم بالصاعقة في أكثر من موضع.
واكتشافات جديدة متوقعة
من الصعب عدم الاتفاق مع وجهة نظر روبرتس، فقد تشكلت تجاويف من الحجر الرملي الأحمر والأسود، لتبرز على هيئة أشكال مجنونة وخيالية، حيث ترى العين فيلاً وفطراً عملاقاً وفقمة نائمة. ولو حاولنا تجسيد هذه المشاهد في مقطوعة موسيقية، لكانت من دون شك من إنجاز فاغنر. قلت لأحمد، إنها تجعلك تؤمن بالآلهة الجبلية، ما دفعه لرسم ابتسامة عريضة على وجهه. وأردفت قائلاً: “لم أجرب من قبل تدخين الحشيش. ولكن عندما تسمع الأشخاص بصدد الحديث عن شعورهم، تنتابني ذات الأحاسيس. والأمر سيان هنا، يجعلك الأمر تشعر وكأنك تحلق عالياً”.
بروح معنوية عالية، أقول إنه لا أحد تمكن من تحقيق ما وصل إليه عالم الآثار البريطاني الذي التقيت به في تلك الليلة. لقد كان جامي كوارترمان Jamie Quartermain ضمن فريق دولي يعمل منذ شهر مارس على استطلاع هذه المواقع.
صرح كوارترمان، وهو أحد المختصين في مسح الأراضي الذي كان رائداً في استخدام الطائرات من دون طيار في هذا المجال، قائلاً: “لقد كنا نرغب في العمل هنا، لكن السعودية كانت تغلق الباب أمامنا. يعد المكان بمثابة احتياطي غير مستغل إلى الآن”.
وأضاف المصدر ذاته أنه “على الرغم من الإدراك بأنها صحراء كبيرة مفتوحة، إلا أنه عندما أحاول معرفة أي شيء عنها لا أجد إلا كتاباً واحداً يمكن الاعتماد عليه. يعد اكتشاف وجود العديد من المواقع الأثرية بمثابة صدمة كبيرة لمعظم الناس. ولقد كانت صدمة كبيرة بالنسبة لي”.
طائرة استكشاف بدون طيار
وبناءً على نصيحة من الهيئة الملكية التي تتوقع وجود 450 موقعاً غير مُكتشف، يقدر كوارترمان العدد الأقرب إلى الصواب بين 6 آلاف و10 آلاف موقع. وفي هذا الصدد، قال كوارترمين: “بقاء تلك الآثار أمر مثير للإعجاب، حتى إن بعضها ما زال في أفضل حالاته. نحن لا نعثر عليها بعد قيامنا بالحفر، فهي موجودة على السطح في حالة جيدة وجليّة للعيان”.
من خلال تخصيص طائرة من دون طيار لتحلق في المنطقة، بدأ كوارترمان بخلق سطح تركيبي ثلاثي الأبعاد. فكان ما اكتشفه أمراً مثيراً للغاية حيث صرح قائلاً: “يمكنك أن ترى علم الآثار بين يديك يتوجه لك بالنداء حتى تعمل أكثر”. عندما كنت في العشرين من عمري، زرت البتراء، ونمت في أحد الكهوف، وتحدثت إلى رئيس قبيلة بدول، التي تزعم أنها تنحدر من نسل الأنباط، الذي قال لي: “لدينا مقولة تقول إنه كلما زادت ثروتك، زادت خلايا المخ التي تحتاجها لتكون قادراً على إدارتها”.
والأمير تشارلز نقش عليها بمفتاح سيارته
كانت هناك نقوش حديثة تحمل اسم “تشارلز” على الجدار الطيني الذي يتخذ لون نبتة الشوفان. وفي حين أنني، ومن الوهلة الأولى، كنت آمل أن تكون لتشارلز داوتي، لكنها كانت ترجع للأمير تشارلز، حيث قام بنقشها مستخدماً مفتاح سيارته وذلك أثناء زيارته للمدينة سنة 2015. وقد تمت ترجمتها إلى اللغة العربية في الأسفل.