اخترعوا نظماً رقمية لا تزال مستخدمة اليوم، قصة سومر وأكاد أقدم الحضارات في التاريخ
أقدم من سكن بلاد ما بين النهرين، وأول من شكَّل حضارة متقدمة شملت أقدم أنظمة الكتابة، والفنون والعمارة وعلم الفلك والرياضيات واختراعات كالمحراث والمراكب الشراعية والأنظمة الرقمية.. إنهم السومريون الذين عاشوا منذ نحو 7000 سنة، وجعلوا من بلاد الرافدين “مهداً للحضارة”.
وعلى الرغم من أن أصولهم مجهولة، إذ قيل إنهم جاؤوا من الأناضول، وقيل إنهم هنود الأصل كما قيل إنهم ينحدرون من القوقاز، فإن آثار الحضارة التي بنوها لا تزال شاهدة على مدى تقدم السومريين وتحضُّرهم.
أما خلفاؤهم الأكاديون فقد أسسوا أول إمبراطورية عرفها التاريخ وأنتجوا لغة خاصة بهم، ثم اندثرت حضارتهم لأسباب غامضة، قد يكون أحدها التغير المناخي أو سقوط نيزك عملاق.
ويبقى من المثير للاهتمام معرفة تاريخ صعود واندثار هاتين الحضارتين اللتين تركتا بصمتهما منذ آلاف السنين حتى يومنا هذا، لذا جمعنا لكم نبذة عن تاريخ السومريين والأكاديين، حسبما ورد في موقع Ancient Origins الأمريكي.
من هم السومريون؟
نعلم أنهم من أنشأ “مهد الحضارة”، لكن مع الأسف، لا يزال أصل السومريون لغزاً حتى يومنا هذا.
أطلقوا على أنفسهم اسم “Saggiga”، وتعني “الرأس الأسود أو الرأس الأصلع”، وعلى بلدهم اسم “Kengi”، وتعني الأرض المتحضرة.
يعتقد البعض أنَّ السومريون جاءوا من منطقة الأناضول (تركيا حالياً)، في حين يشير آخرون إلى أنَّهم ربما جاءوا من الهند وينحدرون من أصل قوقازي.
استقر السومريون في الجزء الجنوبي من بلاد بابل، التي تُعرف حالياً بدولة العراق، نحو 3500 قبل الميلاد.
كانت حضارة سومر، التي نشأت فيما أطلق عليه اليونانيون القدماء (الإغريق) بلاد ما بين النهرين، عبارة عن مجموعة من المدن المستقلة ذات السيادة استمر بعضها لمدة 3000 عام.
بدأ السومريون، بدايةً من نحو عام 3500 قبل الميلاد، في تشييد مدن محاطة بأسوار، من بينها مدينة “أور”، عاصمة الدولة السومرية.
تضمنت كل مدينة من تلك المدن منشآت عامة وأسواقاً وورش عمل وأنظمة مياه مُتقدّمة، وكانت محاطة بقرى وأراضٍ مُخصّصة للزراعة.
كانت السلطة السياسية في الأصل تعود إلى المواطنين، لكن مع تزايد التنافس بين المدن المختلفة، اعتمدت كل مدينةٍ مؤسسةَ حكم خاصة بها.
معبد سومر وأبرز اختراعات سكان بلاد الرافدين
كان يُعتقد أنَّ كل مدينة تخضع لحكم إله محلي أو مجموعة آلهة، وهيمنت المعابد على أشكال العمارة في مختلف المدن السومرية.
بُني أشهر معابد الحضارة السومرية “زقورة أور” من الطوب على شكل مدرجات هرمية الشكل، وكان يتكوّن من ثلاثة طوابق بارتفاع 15 متراً.
ضمَّ هذا المعبد مجموعة من المعابد، بالإضافة إلى القصر الملكي، كان هناك أيضاً ضريح مُخصّص لإله تلك المدينة على رأس المبنى.
كانت الثقافة السومرية من أوائل الثقافات التي طوّرت عدة معايير يمكن استخدامها لتأكيد معالم وجود حضارة.
يعود إليهم الفضل في وضع المدونات القانونية والتقويم القمري، بالإضافة إلى ابتكار المحراث والمراكب الشراعية.
وقد طوّر السومريون أيضاً نظاماً رقمياً يستند إلى الرقم 60، الذي لا يزال يُستخدم لقياس عدد الثواني والدقائق. ومع ذلك، قد يكون الإرث الأشهر للسومريين هو نظام الكتابة الخاص بهم.
ابتكر السومريون أحد أقدم أنظمة الكتابة المعروفة بـ”الكتابة المسمارية”، وهي نوع من الكتابة تُنقش رموزها فوق ألواح طينية رطبة باستخدام أداة حادة مدببة تشبه قلم شاشات اللمس الإلكترونية.
ثم تُجفّف تلك الألواح الطينية في الشمس للاحتفاظ بالنص.
وقد نجت مئات الآلاف من تلك الألواح، ممّا يفتح نافذة يمكن من خلالها التعرّف على الثقافة السومرية ونمط الاقتصاد والقانون والأدب والسياسة والدين الخاص بهم.
ولا شك في أن نظام الكتابة السومرية قد أثر على نمط النصوص في المنطقة على مدى الأعوام الـ3000 اللاحقة.
عُثر على أقدم النقوش المسمارية فيما أصبحت حالياً منطقة جنوب شرقي العراق، ويعود تاريخ تلك النقوش إلى نحو 3000 قبل الميلاد.
وبينما اقتصر في البداية استخدام نظام الكتابة المسمارية على السومريين فقط، لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً قبل أن تعتمد المجموعات البشرية المجاورة استخدامه.
بحلول عام 2500 قبل الميلاد، بدأ الأكاديون، وهم أقوام ناطقون بلغة سامية استقرّوا شمال دولة سومر، في استخدام الكتابة المسمارية لتدوين اللغة الخاصة بهم.
لكن هيمنة السلالة الأكادية في نحو 2300 قبل الميلاد أدَّت إلى تثبيت اللغة الأكادية على حساب اللغة السومرية، باعتبارها اللغة الأساسية في بلاد ما بين النهرين.
وعلى الرغم من أنَّ اللغة السومرية شهدت فترة انتشار وانتعاش قصيرة، فإنها أصبحت في نهاية المطاف لغة ميتة لا تُستخدم إلّا في السياقات الأدبية.
أما اللغة الأكادية فقد استمر التحدث بها على مدار 2000 عام تالية، وشهدت تطوراً إلى أشكال لاحقة عُرفت بالبابلية والآشورية.
أين نشأت الحضارة الأكادية؟
ربما شكَّل السومريون واحدة من أوائل الحضارات المعروفة تاريخياً، لكن الأكاديين هم الذين شكّلوا واحدة من أول الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ.
انتقلت تلك المجموعة السامية إلى جنوب بلاد ما بين النهرين خلال الجزء الأول من الألفية الثالثة، وحقّقوا سيطرة سياسية على المنطقة.
تأسست الحضارة الأكادية على يد سرجون الأكدي (سرجون الأعظم)، وكانت عبارة عن مجموعة من المدن المستقلة الخاضعة لسيطرة مدينة “أكاد”، التي بناها سرجون وجعلها عاصمة إمبراطوريته.
حكم سرجون الأكدي من عام 2334 حتى عام 2279 قبل الميلاد، وغزا كل مدن جنوب بلاد ما بين النهرين وكذلك أجزاء من سوريا والأناضول وعيلام (غرب إيران حالياً) لتأسيس أول سلالة سامية حاكمة في المنطقة.
عُرف تاريخ سرجون الأعظم بشكلٍ كامل تقريباً من الأساطير، التي تتبَّعت سيرته عبر ألفي عام من تاريخ بلاد ما بين النهرين، وليس من الوثائق المكتوبة خلال فترة حياته.
يُنسب هذا الافتقار لوجود سجل معاصر إلى حقيقة أنَّ العاصمة “أكاد” لم يتسنَّ اكتشافها أو تحديد موقعها حتى الآن.
إذ تعرضت “أكاد” للتدمير في نهاية السلالة الأكادية، التي أسسها سرجون الأكدي، ولم تسكنها أي مجموعة بشرية من جديد، على الأقل تحت اسم “أكاد”.
لعنة أكاد
روى نص أدبي بعنوان “لعنة أكاد”، كُتب في غضون قرن من سقوط الإمبراطورية الأكادية، أنَّ سقوط مدينة “أكاد” حدث بسبب غضب الآلهة بعد تدمير معبد الإله “إنليل”. وجاء في النص:
“لأول مرة منذ تشييد المدن وتأسيسها لم تعد المناطق الزراعية الكبرى تنتج أي حبوب.. لم تعد المناطق المائية تسبح فيها الأسماك، لم تعد الأمطار تهطل، مَن نام على السطح، مات على السطح، مَن مات في المنزل، لم يجد مَن يدفنه، كان الناس يعانون بسبب الجوع” .
صعود وسقوط إمبراطورية بلاد ما بين النهرين
غزا سرجون الأكدي جميع المدن السومرية في عام 2350 قبل الميلاد، ووحّدها تحت حكمه، وأنشأ أول إمبراطورية في بلاد ما بين النهرين.
استطاع سرجون هزيمة جيوش دولة سومر في معركتين وأسر الملك لوغال زاغيزيسي، الملك السومري الذي غزا جميع المدن السومرية المستقلة ووحّدها وحصل على لقب “ملك كيش”.
حَكم الأكاديون مدن دولة سومر على مدار القرنين التاليين.
نفّذت المدن السومرية خلال تلك الفترة عديداً من الثورات ضدهم.
في عام 2100 قبل الميلاد تقريباً، عندما تداعت مدينة أكاد، حلَّت مدينة أور محلّها وارتقت إلى مكانة بارزة بعد قرن من سقوطها، وأصبحت المدن السومرية مستقلة مُجدّداً.
انهارت الإمبراطورية الأكادية في وقت ما بعد عام 2200 قبل الميلاد.
يلقي المؤرخون باللوم في سقوطها، على قبائل كانت تستوطن الجبال تُدعى “شعب جوتي”، الذين غزوا أجزاء كثيرة من دولة سومر، أو ربما كان السبب عدم الكفاءة الإدارية، أو قلة المحاصيل، أو حركات التمرد المحلية، أو حتى ربما سقوط نيزك عملاق.
وبالطبع، ذكر بعض المؤرخين عامل تغيُّر المناخ أيضاً على اعتبار أنَّه قد يكون سبباً في انهيار الإمبراطورية الأكادية، مشيرين إلى فترات الجفاف الطويلة وتغيّرات حركة الرياح والتيارات المحيطية كدلائل لدعم تلك الفكرة.
وفي دراسة أُجريت عام 2019، قُدِّمت سجلات أحفورية من عمان باعتبارها دليلاً جديداً على أنَّ رياح الشمال الشتوية المتكررة، أو العواصف الترابية وموسم الشتاء البارد الممتد لفترة طويلة، ساهمت أيضاً في انهيار تلك الإمبراطورية القديمة.
وظهرت بعد ذلك حضارتا آشور وبابل لتسيطرا على المنطقة.
استطاعت سلالة أكادية في مدينة “أور” إعادة إحياء الثقافة السومرية من جديد في الفترة من عام 2112 حتى عام 2004 قبل الميلاد، على الرغم من أنَّ اللغة السومرية قد بدأت بالتلاشي.
فلم تعد اللغة السومرية مستخدمةً واستُبدلت باللغة السامية الأكادية بحلول عام 2000 قبل الميلاد.
على الرغم من أنَّ حكم سلالة سرجون الأكدي استمرّ نحو 150 عاماً فقط، فإنه خلق نموذجاً للحكم أثَّر على كل حضارات الشرق الأوسط، وترك بصمة دائمة على حضارة بلاد ما بين النهرين لآلاف السنين اللاحقة.