«ابن عربي».. مصر بداية حكاية الأزمة للصوفي المثير للجدل
قال عنه السهرودي لتلاميذه بعد لقاء هو الأول بينهما استمر طويلا.. كل منهما يحدق إلى الآخر ليمضيا بدون أن يحدث أحدهما الآخر”: إن ابن عربي .. بحر الحقائق”.
هو “محي الدين محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي”، أحد كبار الصوفية وأكثرهم جدلا حتى الآن، فقيه، فيلسوف مفكر، لقب بالشيخ الأكبر وتنسب إليه الطريقة الأكبرية الصوفية ولد في مرسية ببلاد الأندلس في رمضان 558هـ، ودرس بأشبيلية وبها أمضى ما يزيد على 20 عام تتلمذ فيها على يد مشايخ التصوف، ثم ارتحل إلى بلاد المشرق العربي ليمر بحياة حافلة ويرتحل ببلدان مختلفة حتى تأتيه الوفاة في دمشق ويدفن في سفح جبل قاسيون.
في 598هـ مر ابن عربي بمصر مرتحلا للمدينة المقدسة “مكة” إذ ارتحل من المشرق يبتغيها، وهناك فقد صاحبه “محمد الحصا” الذي توفي هناك، ولم يقم طويلا في زيارته بالإسكندرية ولا القاهرة، ومن مكة التي قضى فيها ما يزيد على العامين يغادرها إلى بلاد العراق، ثم يعود إلى مصر مرة أخرى في 603هـ وكان جماعة من الصوفية من أصحابه وأهل بلدته قد عاشوا معا في بيت بزقاق القناديل بالقاهرة، فينضم إليهم ابن عربي ويقضي معهم الليالي في العبادات والمجاهدات وإتيان الكرامات العجيبة، وفي ذات ليلة تجتمع هذه الجماعة في غرفة مظلمة تماما، ليلاحظا بحالة من الدهشة أشعة نورانية تبعث من أجسامهم، لتبدد الظلام المحيط بهم، ثم وكما يقول ابن عربي في “محاضرة الأبرار”:” ..فدخل علينا شخص من أحسن الناس وجها ومنطقا، فقال :أنا رسول الحق إليكم. فكنت أقول له: فما جئت به في رسالتك؟ فقال:” اعلم أن الخير في الوجود، والشر في العدم، أوجد الانسان بوجوده وجعله واحدا ينافي وجوده، تخلق بأسمائه وصفاته وفني عنها بمشاهدة ذاته، فرأى نفسه بنفسه وعاد العدد إلى أسه، فكان هو ولا أنت”.
وقد اتهمه بعض الفقهاء الغيورين على السنة بأنه مبتدع وطالبوا بسجنه، بل زاد البعض مطالبا برأسه وكما يقول “عبدالرحمن بدوي في ترجمته لكتاب أسين بلاثيوس”ابن عربي ..حياته ومذهبه”: فإنه لا بد من أن هذه الآراء التي علمها بن عربي لعامة الصوفية قد وصلت لمسامعهم، ومن هنا بدأ اضطهاد آراءه لكنه لم يدهش من موقف الفقهاء لأن الله قد أنزره وهو في مكة أنه سيمتحن في سمعته في حياته وبعد مماته.
ويشار إلى أنه من حسن حظه في هذه المناسبة لم تلق الاتهامات أذنا صاغية لدى الملك العادل، وتسببت توصية من الشيخ أبي الحسن البجائي وكان صديقا لابن عربي،بإطلاق سراحه، حيث قال :”يا سيدي تلك شطحات فيمحل شكر ولا عتب على سكران” ، ومن القاهرة توجه إلى الإسكندرية ومنها إلى مكة مرة أخرى.
وقد أحب ابن عربي حياة التجوال كانت البداية من اشبيلية حيث كانت نشأته ومنها تلقى تعليمه إلى مرشانة وقرطبة وقبرفيق، كما اتجه إلى تلمسان وأقام بها حينا، ليعود لاشبيلية، ثم يرتحل من جديد ومن بين البلدان التي يقيم بها فاس، وذهب إليها مرتين في الأولى ألف كتابه الإرشاد وفي الثانية أشار فيها إلى ظهور الخضر له للمرة الثالثة، كانت حياة السياحة هي حياته المفضلة فهام في بلاد الله شرقا وغربا، متعلما ومعلما.
وبفضل أسفاره ذاعت شهرته بوصفه صوفيا في البلدان القريبة من اشبيلية بفضل أسفارة المختلفة.
وحتى الآن فإن كثيرين يرمون ابن عربي بما ليس فيه سماعا ولا يفكرون في دراسته دراسة وافيه ومما يذكر أن ابن عربي كانت له مراجعاته مع بعض الشيوخ ذوي الاتجاهات والآراء المبتدعة ويذكر أن ابن عربي دخل في جدال مع احد شيوخ المعتزلة بالأندلس وظل الجدال متواصل يوما تلو الآخر بحضور تلاميذ هذا الشيخ وأتباعه في مدرسة حتى كلل سعيه بالنجاح ورجع الشيخ عن معتقداته الباطلة وكذا تلاميذه.
ولحياته قسمين هامين الأول والذي قضاه في الأندلس، ثم مرتحلا الى بلاد المغرب العربي وشمال افريقيا، والشطر الثاني الذي رحل فيه إلى المشرق العربي، و يشار إلى أن ابن عربي لم ينل حظا لدى سلاطين الموحدين، ويرجعه المستشرق الإسباني أسين بلاثيوس إلى أن تجنبهم له قد يكون خوفا من انتشار الحمية الصوفية، التي كثيرا ما أدى انتشارها إلى ثورات سياسية في الإسلام، لكن على خلاف ذلك كان الموقف معه لدى أمراء المشرق الاسلامي، فتاريخه وما نقل عنه،وحتى ما كتبه في الفتوحات المكية يشير إلى الدور الكبير الذي كان له لدى البلاط السلطاني في مختلف بلاد المشرق العربي والإسلامي.
يقول القزويني عنه خلال وصفه لمدينة إشبيلية:” ينسب إليها الشيخ الفاضل محمد بن عربي الملقب بمحيى الدين رأيته بدمشق سنة 630 وكان شيخا فاضلا أديبا حكيما شاعرا عازفا زاهدا. سمعت أنه يكتب كراريس فيها أشياء عجيبة، سمعت أنه كتب كتابا في خواص قوارع القرآن، ومن حكاياته العجيبة، ما حكى أنه كان بمدينة اشبيلية نخلة في بعض طرقاتها، فمالت إلى نحو الطريق حتى سدت الطريق على المارين، فتحدث الناس في قطعها حتى عزموا أن يقطعوها من الغد، فرأى بن عربي رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه عند النخلة وهي تشكو إليه وتقول يا رسول الله ان القوم يريدون قطعي لأني منعتهم المرور، فمسح الرسول بيده المباركة النخلة فاستقامت، وفي الصباح ذهب للنخلة فوجدها مستقيمة، فذكر أمرها للناس فتعجبوا واتخذوها مزارا تبركا بها.
ولابن عربي ما يزيد على 400 كتاب من أشهرها الفتوحات المكية و “فصوص الحكم الذي لا يزال مثيرا للجدل حتى وقتنا هذا، تشير الباحثة الأردنية د.ليلى خليفة، والتي هامت في أجواء ابن عربي وتخصصت فيه بجامعة السوربون الفرنسية أن العرب لم يقرؤوا ابن عربي ومواقفهم ضده مبنية على جهل، مؤكدة على أنه لا توجد قراءة متعمقة فيه، ومعظم منتقديه لم يقرؤوه بالأساس، مشيرة إلى أن كتابته خاصة جدا ولا يمكن فيها أن تؤخذ حيثيات من جزء بدون الاطلاع وقراءة الكل، وبذلك يصير الحكم محجف وغير سليم.