“ابتكار الألم” في مواجهة من الاغتراب
كتب.. محمد صالح البحر
في ظل العدمية التي تسيطر علي إنسان العالم الآن، نتيجة التوحش المفرط للقوة التي تحكمه، بكافة أشكالها العسكرية والسياسية والرأسمالية والدينية، سيظل الاغتراب هو الموضوع الأكثر تأثيرا علي الإبداع الفني الحديث، والمهيمن الأكبر علي موضوعاته.
يبدو الأمر كعلاقة شرطية يحكمها المنطق العقلي، سبب أدي إلي نتيجة، لكن المتأمل الجاد للعلاقة بين الاغتراب والفن سيقع لا محالة علي الجوهر التبادلي بينهما، والذي نشأ عبر الامتداد الزمني من جهة، وعبر قدرة الفن علي التشكيل والتعدد من جهة أخرى، فكلاهما أفاد الآخر، ومدَّه بسياقات جديدة لم يكن يمتلكها من قبل، فالاغتراب القاهر الذي لم يكن يمتلك سوي معني واحدا، ولم يكن يُفضي إلا إلي العدمية وتخريب حياة الإنسان، فقد الكثير من قدراته التدميرية بعدما استطاع الفن تطويعه وجعله مجرد موضوع تعبيري له، وأيضا تفتيته إلي الكثير من المعاني التي تخص كل مبدع ورؤيته علي حدة، لقد بدا الفن وكأنه وجد ضالته المفقودة علي حين غرة، وفي الوقت المناسب أيضا، تحديدا في اللحظة التي كان يجتهد فيها للخروج من عباءة الواقعية التي جفتْ عصارتها، واهترأ نسيجها بحيث أضحي عاجزا عن التعبير عن الإنسان الذي فصلته قوة التوحش عن ذاته، وكونه الكائن الأسمى علي الأرض، كما فصلته عن مجتمعه، وكونه جزءا من نسيجه وشريكا له وفيه، كما أتاح الاغتراب للفن مجالا لا أفق لامتداداته الشاسعة، يكتسب سمتا جديدا مع كل مبدع، ومع كل عمل إبداعي، ويتشكل حسب معطيات المفردات في كل نص، الفرد، الحالة، اللغة، المكان، الزمان، السياق.. وغيرها، مما أتاح للمبدعين قدرات هائلة للتسابق في خوض المغامرة الحديثة، التي بدت وكأنها أيقونة هذا العصر، ومعينه الذي لا ينضب.
وهو ما يتحقق هنا في هذه المجموعة القصصية “ابتكار الألم” للكاتب الجزائري محمد جعفر، والتي تأتي كتجربة / مغامرة جديدة لخوض حقول الاغتراب الإنساني حسب رؤيته الفنية التي لم تكل عن البحث عن زاوية جديدة للرؤية، وأسلوب جديد للتناول، حتى وقعت عليه وأمسكت بزمامه، فالكاتب لم يكتفي هنا بالتقاط قدرة الاغتراب علي إحداث الألم، بل التقط قدرة الإنسان علي صناعة ألم جديد، ليس هروبا من ألمه الخاص، بقدر ما هو إمعان في مواجهته، وقهر مضاد له، لدحضه والتخلص منه باتجاه آفاق جديدة للخلاص والتحرر.
فالزوجة التي تقع فريسة لألم الاحتمالات التي لا تنتهي في قصة “الشك”، تلجأ إلي ابتكار ألمها الخاص الجديد في طرح الشك نفسه جانبا، وإهماله كأنه لم يكن، ليس هروبا أو خوفا من تدمير حياة قد لا تمتلك القدرة أو الوقت لصنع بديل لها، بقدر ما هو قبول للحياة بتناقضاتها التي لن تنتهي أيضا، فالخيانة لن تنتهي من العالم عندما تواجه زوجها، أو عندما ينفي أو يثبت الزوج التهمة، أو عندما يتم التعرف علي الطرف الآخر وربما دحضه، أو عندما يتم تدمير الحياة، بل ستستمر الحياة في سياقها، وستنتهي قصتهما إن عاجلا أو آجلا وكأن شيئا لم يحدث هنا ذات يوم، لذا تستدعي الزوجة حنينها لأولادها ولزوجها أيضا، بكل ما تحمله مواصلة الحياة بتناقضاتها معهم من ألم، في مقابل ألم مواجهة الزوج وتدمير الحياة، وعندما تجد أن ألمها المبتكر أكبر من ألم الواقع، ويمتلك القدرة علي محوه بمعرفة وجوده الحي، وضعت الورقة المكتوب فيها رقم الهاتف المجهول بلا اسم أو عنوان، وراحت تستقبل أولادها وزوجها، وتفتح باب الحياة لهم، بحنين حقيقي، صحيح أنه يحمل ألما جديدا وكبيرا، لكنه يحمل أيضا وجودا حقيقيا، حيوات حقيقية، ومعرفة يقينية بالقدرة علي الاستمرار والتواصل.
وعلي هذا العزف الخاص في تفرده وحداثته، يسير باقي أبطال القصص الأخرى، ويرتضي الغريب العائد بألم واقعه بديلا عن ألم الغربة في قصة “الحاجز”، رغم قسوة الواقع المفرطة في قوتها وقهرها، حتى علي مستوي الشكل الذي لم يرتضي معه العسكري الواقف علي الحاجز الأمني أن يحدثه الغريب العائد وهو يشعل سيجارته، فطارده مرة أخرى فقط لكي يطفئها، كما تنظر المرأة للحياة الجديدة التي تتشكل في رحمها، بكل ما تحمله من ألم المجهول الآتي في المستقبل، بديلا عن ألم حياتها السابقة التي قُتل فيها زوجها وحبيبها علي يد أخوها الحبيس في قصة ” المرأة التي سقطت من غيمة”، كما ترتضي المرأة في قصة “موعد خارج الإطار” الوقوع في ألم مواجهة الواقع الذي يقهرها بالتحرش، ويعتبرها مجرد فريسة، علي الاستسلام للدخول في علاقة طبيعة قد تنتهي للمسار الذي يرتضيه ذات المجتمع القاهر من حولها، وبالمثل يرتضي كل من البطل والبطلة في قصة “الفحل الذي أكل قلبه” بالألم النفسي لعلاقتهما النفعية، بديلا عن ألم التخلي عن أحلامهما في التحقق عند البطلة، وفي مواصلة ذات التحقق عند البطل.
وهكذا يبدو الأمر في بقية القصص، حيث يحاول كل إنسان أن يبتكر لنفسه ألما أكبر مما هو موجود فيه، في لحظته الراهنة، وهكذا يستطيع الفن في مجموعة “ابتكار الألم” للقاص محمد جعفر أن يشق للإنسان طريقا جديدة لمواجهة ألم معاناته اللا منتهية نتيجة اغترابه في الحياة، عن طريق قدرته علي ابتكار ألم أكبر منه، يساعده علي تحمل الألم الصغير، ويفتح له آفاقا لمواصلة الحياة، ومحاولة ترك بصمته الخالدة عليها، فالحياة خلقت من أجله هو، لا من أجل الاغتراب الذي مهما طال، فلابد أن ينتهي.