إلى أي مدى أضعف اليمين دفاع إسرائيل أمام “الجنائية”؟
بيان المدعية العامة في محكمة الجنايات الدولية في لاهاي حول وجود أساس لفتح تحقيق في الاشتباه بجرائم حرب في الضفة الغربية وقطاع غزة، يخلق في المقام الأول قلقاً للمستوى السياسي والجهاز القضائي في إسرائيل. الجيش الإسرائيل في هذه القضية هو لاعب ثانوي؛ لأن التداعيات الفورية عليه لم تتضح بعد. قائد المنطقة الوسطى هو “البديل السيادي” في ظل غياب وضع قانوني ثابت في الضفة الغربية. ولكن سيكون على الحكومة أن ترى كيف يؤثر موقف المحكمة في لاهاي على سياستها الاستيطانية. هذه السياسة تحولت في السنوات الأخيرة إلى أكثر اتساعاً على خلفية صراعات القوى في اليمين الإسرائيلي والدعم الكبير لإدارة ترامب لمواقف الليكود، وفقا لصحيفة “هآرتس” العبرية.
السؤال الرئيسي بالنسبة للجيش يتعلق بقطاع غزة. تطرقت المدعية العامة باتو بنسودا، في بيانها الطويل، إلى ثلاثة أحداث على الأقل كانت في عملية الجرف الصامد في صيف 2014. وهي لم تفصل عن أي أحداث يدور الحديث عنه، وربما يكون أحدها “يوم الجمعة الأسود”، تلك المعركة التي جرت في رفح بعد اختطاف جثة الجندي هدار غولدن في 1 آب. هذه الحادثة تم التحقيق فيها بشكل مطول من قبل الشرطة العسكرية وطواقم تحقيق عسكرية. أول أمس، أصدر النائب العسكري العام، الجنرال شارون ايفيك، قراراً إشكالياً بإغلاق الملف دون تقديم لوائح اتهام.
أحداث أخرى رمزت إليها المدعية يمكن أن تتعلق بالمس بالطواقم الطبية وسيارات الإسعاف الفلسطينية أثناء المعارك. يبدو أن عملية الجرف الصامد بعدد القتلى المدنيين الكبير فيها (أكثر من 700 من بين الـ 2000 قتيل حتى بالتقديرات المقلصة للجيش الإسرائيلي) أبرزت انشغال المجتمع الدولي بما يجري في المناطق. وقالت المدعية أيضاً بأنها ستفحص البدء في فحص مسبق لتعامل إسرائيل مع المظاهرات على طول جدار غزة التي بدأت في آذار 2018 والتي من خلالها (والأحداث المرتبطة بها) قتل أكثر من 300 فلسطيني. الكثير من القتلى كانوا مدنيين ولم يكونوا مسلحين بسلاح ناري.
ادعاء إسرائيل الرئيسي حول غزة هو حجة التكامل؛ فإسرائيل في جميع اتصالاتها مع المجتمع الدولي تدعي بأنها تبحث الاشتباه في حدوث جرائم حرب بمعايير لا تقل عن طرق التحقيق التي تتبعها أي دولة غربية أخرى في أحداث مشابهة. والدليل على ذلك أنه سيتم تقديم التحقيقات التي أجريت بعد العمليات الثلاث الأخيرة في القطاع وفي العقود الأخيرة في الضفة الغربية.
عدد من قُدموا للمحاكمة قليل، وخلال السنين هناك انتقادات شديدة من منظمات حقوق الإنسان وجهات أخرى على إغلاق ملفات بالجملة، ولكن لوائح الاتهام التي قُدمت ستفيد إسرائيل في الادعاء بأنها انشغلت في السابق بهذه الأمور، بصورة لا تبرر تدخلاً قانونياً خارجياً. قُدمت لوائح الاتهام على مخالفات مختلفة في القطاع، وفي حادثة واحدة لإطلاق قناص النار على أحد المتظاهرين في المظاهرات على الجدار، وفي أحداث في الضفة (والمعروف منها محاكمة الجندي اليئور ازاريا). السؤال الذي سيقف أمام أنظار المدعية العامة هو هل جرت هذه التحقيقات بصورة أصيلة وجدية وأساسية، وبهذا يصبح من الأمور النافلة الانشغال بها في لاهاي.
ادعاء آخر لإسرائيل هو أن المحكمة لم تُنشأ في الأصل لمعالجة المخالفات التي يتم اتهام الجيش الإسرائيلي بها الآن، بل لمعالجة أحداث تتعلق بالإبادة والتطهير العرقي كدرس من الكارثة. وبعد ذلك تعاملت مع جرائم حرب واسعة النطاق في البلقان وإفريقيا. وحتى عندما تم التحقيق مع جيوش غربية كان ذلك على مخالفات تتعلق بتعذيب وقتل الأسرى، من قبل الأمريكيين والبريطانيين في أفغانستان والعراق.
وحتى الآن لم يتم التحقيق في القصف الجوي وقتل المدنيين أثناء القتال مثلما سيحدث في حالة إسرائيل. هذه سابقة مقلقة حتى بالنسبة للجيوش الغربية، ردود إدارة ترامب ضد النائبة تلقائية، لكن إلى جانب دعم إسرائيل وتحفظ الإدارة الحالية الأساسي من جهات دولية، فإن هذا التطور قد يقلق الجنرالات الأمريكيين أيضاً.
في بداية العقد الحالي، حذر إيهود باراك، عندما كان وزيراً للدفاع في حكومة نتنياهو، من اندلاع تسونامي دبلوماسي مناهض لإسرائيل، إذا ظهرت إسرائيل كرافضة للسلام إزاء جهود وساطة إدارة أوباما وخطوات سياسية هددت باتخاذها السلطة الفلسطينية. تحذيرات باراك لم تتحقق. ونتنياهو رد على ذلك باستهزاء، ومؤيدوه عرضوا الشعبية التي حظي بها رئيس الحكومة في مناطق مختلفة، بدءاً بشرق آسيا ومروراً بشرق أوروبا وانتهاء بشرق إفريقيا كدليل قاطع، سواء على حكمة نتنياهو أو تبدد نبوءات اليسار السوداوية.
ولكن يتبين أن الساحة الدولية، مثلما هي دائماً، هي ساحة معقدة تصعب الحركة فيها. دعم ترامب ليس كل شيء، فجزء من خطوات نتنياهو واليمين –الحديث غير المنقطع عن ضم الغور وأجزاء من الضفة- الانقضاض القبيح على قيادة الجيش الإسرائيلي والنائب العسكري الأول عندما صمموا على تقديم ازاريا للمحاكمة، أجواء التحريض العامة ضد الجهاز القضائي على خلفية التحقيق مع نتنياهو يضعف الآن طبقة الدفاع الإسرائيلية ضد تدخل قضائي خارجي فيما يحدث في المناطق. هذه القضية لم تُحسم بعد، وهي لا تحتاج، مثلاً، إلى أي تغيير في توجيهات سلوك ضباط الجيش الإسرائيلي الذين يسافرون إلى الخارج. ولكن على المدى البعيد، فإن بيان المدعية العامة يشير إلى منحى إشكالي بالنسبة لحكومة إسرائيل وجهاز الأمن.