إسرائيل.. قبل “لاهاي”: الفلسطينيون لا يستحقون الحماية القانونية
العناوين التي ظهرت بعد قرار المدعية العامة في محكمة الجنايات الدولية، باتو بنسودا، بشرتنا ببدء تحقيق ضد إسرائيل. وفي أعقابها جاءت ردود، تلقائية تقريباً، أدانت القرار، لكنها تجاهلت حقيقة أن قرار المدعية العامة لم يكن فتح تحقيق ضد إسرائيل، بل فتح تحقيق فيما يتعلق بمعظم المواضيع المتعلقة بإسرائيل وفلسطين. تجاهلت العناوين حقيقة أن حماس أمست في وضع قانوني أسوأ من وضع إسرائيل في كل ما يتعلق بالقتال بغزة في الوثيقة التي قدمتها المدعية العامة للمحكمة بصفحاتها الـ 112، وفقا لصحيفة “هآرتس” العبرية.
صحيح أن المدعية العامة قالت إن هناك أساساً معقولاً للاعتقاد بأن جنود الجيش الإسرائيلي مسؤولون عن جرائم حرب تشمل هجوماً غير متوازن، وقتلاً غير قانوني ومهاجمة أهداف محظورة، ولكن، في المقابل، تجد المدعية أساساً معقولاً للاعتقاد بأن أعضاء حماس ومجموعات فلسطينية أخرى مسلحة ارتكبوا جرائم حرب، منها هجمات متعمدة ضد مدنيين، وتعذيب ومعاملة غير إنسانية، ومنع الحق في محاكمة عادلة واستخدام المدنيين كدروع بشرية. يبدو أن المدعية تريد التحقيق مع حماس أيضاً في ما يتعلق بجرائم ضد إسرائيليين، وأيضاً فيما يتعلق بجرائم ضد مدنيين فلسطينيين. إضافة إلى ذلك، يبدو أنها توافق على ادعاء إسرائيل بشأن استخدام حماس للمدنيين كدروع بشرية.
إضافة إلى ذلك، يبدو -حسب موقف المدعية- أن صلاحيات القضاء في كل ما يتعلق بحماس أكثر وضوحاً: في كل ما يتعلق باحتمالية مناقشة الجرائم، تطرح المدعية بأن السؤال ما زال مفتوحاً حول المخالفات التي يعد الجيش هو المسؤول عنها في حرب غزة، إذ لا يوجد ما يكفي من المعلومات لدى المدعية عن إجراءات التحقيق التي جرت في إسرائيل في أعقاب هذه الأحداث. هذه الأقوال ترتكز على مبدأ التكامل الذي لا توجد للمحكمة أي صلاحية لمناقشة أي موضوع إذا تم فيه تحقيق سليم من قبل الدولة ذات العلاقة. وفي المقابل، أوضحت المدعية أنه لا يوجد شك حول صلاحية المحكمة في كل ما يتعلق بالجرائم التي يبدو أن حماس هي المسؤولة عنها. مبدأ التكامل لا ينطبق على حماس لأنها لا تحقق مع نفسها.
وعليه، يتضح أن المعلومات التي ستحصل عليها المدعية بشأن درجة جدية التحقيقات الإسرائيلي، ستؤثر على مسألة الصلاحية، لكن أصبح واضحاً للمدعية بأن للمحكمة صلاحية في مناقشة مخالفات حماس متهمة بارتكابها. الخطر القانوني الأكثر وضوحاً لإسرائيل جاء بالتحديد من اتجاه آخر: إقامة المستوطنات في الضفة الغربية، التي تخرق كما يبدو الحظر المفروض على دولة محتلة بنقل مواطنيها إلى الأراضي التي احتلتها. وفي هذه الحالة فإن تحقيقاً من قبل دولة إسرائيل غير ذي صلة. يمكن إذاً أن يحل موضوع المستوطنات في مركز التحقيق المتعلق بإسرائيل، إذا قررت المحكمة في إطار الإجراء الأولي أن لها صلاحية لمناقشة مخالفات أخرى تكون إسرائيل هي المسؤولة عنها في الضفة الغربية وقطاع غزة.
الإجراء الذي طلبته المدعية يعبر عن التصادم بين نظرتين، الأولى تؤكد السيطرة الكاملة على الأرض، والثانية تؤكد الحق في تقرير المصير. يستند موقف المدعية في المقام الأول إلى حقيقة أنه بعد اعتراف الأمم المتحدة بفلسطين كدولة ليست عضواً فيها، انضمت فلسطين إلى دستور محكمة الجنايات ووافقت على حكمها. إذاً، كيف لفلسطين أن تكون عضوة في الجمعية العمومية للدول الأعضاء في المحكمة دون أن تكون عضوة تعطي صلاحية للمحكمة، تساءلت المدعية. قرار الجمعية العمومية من العام 2012 اعتبار فلسطين دولة هو أمر حاسم لموقف المدعية بهذا الشأن. ولكن المدعية لا تستند فقط إلى هذه الحقيقة الرسمية، بل أيضاً إلى الادعاء بأن فلسطين تلبي المعايير التي تُعرف الدولة في إطار القانون الدولي.. وضمن أمور أخرى، في أعقاب الاعتراف بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم حتى لو كان تجسيد هذا الحق قد تضرر بسبب خطوات تتخذها إسرائيل.
بهذا الشأن، يتصادم موقف المدعية مع الموقف الذي أبداه المستشار القانوني للحكومة في رأيه المكتوب: المدعية تستند إلى مقاربة تطورت في عهد مناهضة الكولونيالية، تقول بأنه عندما يدور الحديث عن ترسيخ الحق في تقرير المصير، يعترفون بالدول دون أن يفحصوا المعايير الواقعية التي تشمل سيطرة فعلية على الدولة الجديدة على الأرض. في المقابل، موقف إسرائيل هو أنه دون سيطرة كاملة على الأرض فإن فلسطين لا تلبي المطالب اللازمة لقيام دولة حسب القانون الدولي. إسرائيل تؤكد في موقفها أنه لا يوجد للفلسطينيين سيطرة ذاتية على الأرض. ولكن خلافاً لموقف إسرائيل، فإن عدم السيطرة الفعلية على الأرض لا ينفي سيادة الدولة: الدولة لا تكف عن أن تكون دولة عندما يتم احتلالها وتسيطر عليها قوة أجنبية، حتى لو تم احتلالها كلها، مثلما حدث في حالة احتلال الكويت من قبل العراق، أو احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة.
إذا كان الأمر هكذا، فإن ادعاء إسرائيل القائل بأنه لا يوجد لفلسطين سيطرة كافية على الأرض، يتناقض مع موقف المدعية العامة الذي يقضي بكفاية اعتراف الأمم المتحدة بفلسطين كدولة وانضمامها لدستور المحكمة من أجل الاعتراف بها كدولة، وهذا الادعاء يتصادم أيضاً مع توجه القانون الدولي الذي تتبناه المدعية القاضي بوجوب التصرف بمرونة مع معيار السيطرة في كل ما يتعلق بالاعتراف بالدول التي أقامتها وتعبر عن الحق في تقرير المصير. موقف إسرائيل الذي يقضي بأن الفلسطينيين لا يستحقون الحماية لأنهم ما زالوا تحت سلطة محتلة يعني بأن الشعوب التي لم تحصل بعد على استقلالها يمكن أن لا يحصلوا على الحماية القانونية، وأن من سلبت حقوقه بسبب سلطة أجنبية، فإن حقوقه ستسلب أكثر في سياق محكمة الجنايات الدولية.