إسرائيل تنقل معركتها الداخلية إلى منازل الفلسطينيين
وصلت الجرافات مُبكِّراً إلى حي وادي حُمص، داخل القرية الصغيرة ذات الاسم الغريب في صور باهر، وهو حيٌ يقع جنوب شرق القدس. وتقدَّمت الجرافات ببطءٍ في تمام السادسة من صباح يوم الإثنين، وبدأت مخالبها في اجتثاث قطعٍ ضخمة من المباني، والتي لم يكتمل بناء غالبيتها بعد في أكبر عملية هدم منذ حرب 1967. وانطلق ضجيج أعمال الهدم ليشُق عنان السماء، في حين قال النشطاء الذين تواجدوا في الموقع للاحتجاج على عملية الهدم، إنَّهم شاهدوا جنوداً يضعون عبواتٍ ناسفة بجوار مبنى مُتعدد الطوابق قبل ساعتين فقط من وصول الجرافات.
يقول موقع The Daily Beast الأمريكي، إن غال بيرغر، مُراسل الشؤون الفلسطينية لقناة Kan News الإسرائيلية، وبّخ زملاءه الإسرائيليين لتسليطهم الضوء فجأةً على أمرٍ «يحدث كل أسبوع«. لكن هذه العملية وُضِعَت على خلفية حملةٍ انتخابية قبيحةتأتي بالتزامن مع صراع بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء اليميني، للحفاظ على منصبه وتجنُّب الإدانة الجنائية. إذ إنَّ التشدُّد مع الفلسطينيين سيُعتبر خطوةً إيجابية من جانب بعض الناخبين في قواعده.
هدم منازل الفلسطينيين لرفع أسهم نتنياهو في الانتخابات
وبأعمال الهدم الأخيرة، كانت إسرائيل تُدمِّر المباني الواقع في المنطقة (أ) من الضفة الغربية، والتي يجب أن تخضع لإدارة السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقيات أوسلو بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وفي تصريحٍ للإدارة المدنية الإسرائيلية، التي تُعتبر فعلياً فرع الجيش الإسرائيلي المسؤول عن الحياة المدنية في الضفة الغربية -الخاضعة للاحتلال العسكري الإسرائيلي منذ حرب عام 1967-، قالت إنَّ هدم 12 بناية «شُيِّدت بشكلٍ غير قانوني» ومنشأتين جاء لوقوعهما في منطقةٍ «تحت أمرٍ قضائي يحظر البناء من قِبَل القيادة المركزية على مشارف صور باهر بجوار السياج الأمني» .
وتُشير الإدارة المدنية هنا إلى الأمر العسكري الصادر عام 2011 بحظر البناء على مقربة أقل من (274 متراً) من الحاجز الأمني الإسرائيلي، والذي شُيِّد بعد سلسلةٍ من الهجمات عام 2002. وتزعم إسرائيل أنَّ المباني المعنية شُيِّدت بعد عام 2014.
وجاءت أعمال الهدم في أعقاب حُكم المحكمة العليا الإسرائيلية الذي قبل ادِّعاء الجيش بأن المباني، بما في ذلك المباني الموجودة داخل الأراضي الخاضعة للإدارة الفلسطينية، تُمثِّل «خطراً أمنياً على منطقة السياج الأمني» .
هدم بربري لا يتحمل مسؤوليته أحد
ويوم الإثنين، تعذَّر الوصول إلى موقع الهدم الأصلي في وادي حمص، خلال عملية الجيش الإسرائيلي المدعومة من جانب الشرطة العسكرية، ولم تتوافر أي معلومات من السلطات الإسرائيلية -بخلاف البيان الرسمي.
ومن جانبهم، زعم المتحدثون الرسميون باسم جيش الدفاع الإسرائيلي والشرطة والشرطة العسكرية والإدارة المدنية أنَّهم غير مسؤولين عن تلك المهمة.
واختلفت المصادر الرسمية حول عدد المباني التي تأثَّرت بأمر الهدم، التي شرّدت منها بعض العائلات، وكان بالإمكان سماع أصوات العملية ومشاهدتها على بعد مئات الأقدام، عبر «السياج الأمني» الذي فخَّمه ترامب باعتباره جداراً، لكنه في واقع الأمر عبارةٌ عن مُجرَّد طريقٍ ترابي يُحيط به سياجٌ فضفاض من الأسلاك الشائكة على الجانبين في هذا الجزء الذي يمُر عبر واد حُمص.
السلطة الفلسطينية غائبة عن المشهد
يقول الموقع الأمريكي، ذي ديلي بيست: وقف خالد أبو محمد، المحامي الذي يرتدي حُلةً سوداء، في حوالي الساعة الثامنة صباحاً داخل شرفة جاره لينظر إلى أنقاض المنزل الذي بناه على الجانب الفلسطيني من الطريق -الذي يُدعى سياجاً-، داخل بلدة دار صلاح الصغيرة.
وكان يُقيم حتى صباح يوم الإثنين داخل المسكن المُكوَّن من أربعة طوابق مع زوجته وأبنائه الأربعة، وأحد أبنائه متزوجٌ ويعيش في البناية التي تضم عدة أسرٍ مع زوجته وأطفاله الثلاثة.
وتمسك أبو محمد، الفلسطيني من الضفة الغربية، بحجته القانونية قائلاً: «إنَّ قرار المحكمة العليا الإسرائيلية بتدمير المنزل ليس قراراً قانونياً، بل هو قرارٌ سياسي، لأن المنزل بُنِيَ عام 2008. أي قبل بناء الطريق الأمني».
كان منزله يقع في المنطقة (ب)، والتي تُعتبر خاضعةً للسيطرة المدنية الفلسطينية والسيطرة الأمنية الإسرائيلية-الفلسطينية المشتركة، بموجب اتفاقية أوسلو. أما المنطقة (ج)، التي تُمثِّل 61% من الضفة الغربية، فتقع بالكامل تحت السيطرة الإسرائيلية.
ولم يذكر أحدٌ -سواءً أبو محمد أو الممثلين الإسرائيليين- حقيقة أنَّ السلطة الفلسطينية، صاحبة السيادة الكاملة على المنطقة (أ) والسلطة المدنية في المنطقة (ب)، لم يكُن لها دورٌ في الجدل الإسرائيلي حول حق المباني في البقاء.
وبغض النظر عن موعد بناء منزل أبو محمد، لم يتطرق أحدٌ إلى أمرٍ واحد: وهو أنَّ المباني التي هُدِمَت يوم الإثنين تخلَّلتها مبانٍ أخرى بُنِيَت وكانت موجودةً قبل عام 2011 دون أدنى شك، وكانت تقع على مسافةٍ مُساوية من الطريق الأمني، ومن الواضح أنَّ استمرار وجودها لم يكُن يُمثِّل تهديداً.
ورافق أبو محمد خالد الخطيب الذي يشغل منصب عُمدة دار صلاح، البلدة الواقعة في حي بيت لحم الإداري، والذي قال: «منحناهم إذن البناء، من خلال الحكومة الفلسطينية المحلية» . ومن شبه المستحيل أن يحصل سكان القدس الشرقية الفلسطينيين على ترخيص بناءٍ من مجلس مدينة القدس.
إسرائيل تفعل ما يحلو لها بسكّان القدس وتصنع قوانين لذلك
وقال أفيف تاترسكي، الباحث في جماعة «عير عميم» اليسارية، خلال حديثه إلى صحيفة Haaretz الإسرائيلية اليومية: «بحث السكان الذين يرغبون في البناء بترخيص عن حلٍ مُبتكر، وحصلوا على تصاريح البناء من السلطة الفلسطينية في المنطقتين (أ) و(ب)، حيث لا تتمتَّع إسرائيل بسلطةٍ على خطط البناء». وأضاف أنَّ «إصرار إسرائيل على منع هذ الحل هو تصرُّفٌ قاسٍ للغاية» حسب تعبيره.
وحين سُئِلَ أبو محمد عن المكان الذي سيبيت فيه مساءً، ألقى نظرةً على الأنقاض القريبة التي كانت منزله في يومٍ من الأيام. وبالنسبة لجمال الدراوي، رئيس القطاع الشرقي لمنطقة بيت لحم، فإنَّ «الهدف الرئيسي من عملية الهدم هو إضعاف السلطة الفلسطينية، وإظهار أنَّنا لسنا جيدين بما فيه الكفاية لإقامة دولةٍ أمام العالم»، حسب تعبيره.
وسخر من المزاعم القائلة بأنَّ منازل صور باهر كانت تُمثِّل خطراً على أمن إسرائيل، واصفاً إياها بـ «الأسباب الواهية»، مُشيراً إلى أنَّ العرب يعيشون على جانبي الطريق الأمني، فضلاً عن أنَّ الإسرائيليين يظلون أحراراً في «مواصلة الحماية باستخدام كاميراتهم ووحدات شرطة الحدود. في الواقع، لا تُمثِّل هذه المنازل خطراً على أيّ يهودي أو إسرائيلي أو أيّ إنسان» .
ولم تقع أي هجماتٍ مصدرها وادي حُمص. وحين سُئِل باروش هونيج، المتحدث باسم الشرطة العسكرية، حول سبب اعتبار منازل الحي تهديداً أمنياً؛ قال: «لا تنتظر دولة إسرائيل وقوع الهجوم الإرهابي حتى تتحرك» .
وفي حوالي الساعة السابعة مساءً، كتب القائم بأعمال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية تغريدةً قال فيها إنَّ «إسرائيل لها كامل الحق في هدم المباني غير القانونية المُتاخمة للسياج الأمني في صور باهر. وتمت العملية تنفيذاً لحكم المحكمة العليا بأنَّ تلك الإنشاءات تُمثِّل خطراً أمنياً على المدنيين الإسرائيليين. وهذا يُعَدُّ استفزازاً مُتعمَّداً من قِبَل السلطة الفلسطينية. وأولئك الذين شيَّدوا منازل غير قانونية بعلمهم، قد أخذوا على عاتقهم مهمة إنفاذ القانون بأيديهم» .
وبعد مرور ساعةٍ تقريباً، بدأ تداول مقطع فيديو عبر مجموعات واتساب الإسرائيلية والفلسطينية، ظهر خلاله ضابط شرطة الحدود الإسرائيلي وهو يحتضن جندياً ويلتفت لالتقاط صورة سيفلي باسماً وهو يقول عبارة «مازل توف» الشهيرة التي تُقال عند الاحتفال، وفي الخلفية كان هناك مبنى مُتعدِّد الطوابق يجري تفجيره داخل وادي حمص، وهو ينهار طابقاً تلو الآخر.
والتُقِط المقطع في السابعة والنصف مساءً، بحسب المتحدث باسم الشرطة هونيج، وكانت «التهنئة طبيعيةً في ختام عمليةٍ امتدت لـ17 ساعة في الحرارة الشديدة»، كما يقول مراسل موقع The Daily Beast الأمريكي.