إسرائيل: الملاحقة الأمنيّة كأداة سياسيّة
“إسرائيل: الملاحقة الأمنيّة كأداة سياسيّة – فلسطينيّو 48 بين فكّي الملاحقة الأمنيّة لرموز الوعي القوميّ وتجريم العمل السياسيّ”، دراسة للباحثين الفلسطينيّين، أنطوان شلحت ود. امطانس شحادة، صدرت مؤخّرًا عن “دائرة التثقيف المركزيّة” في التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ.
تقع الدراسة في 100 صفحة من القطع المتوسّط، ويضمّ 10 أبواب: الأعوام الأولى بعد النكبة؛ بدايات التحوّل نحو الفلسطنة؛ توصيات “لجنة لبيد” بشأن زعامة “الوسط العربيّ”؛ وثائق الرؤى الجماعيّة؛ الفلسطينيّون في إسرائيل و”حرب لبنان الثانية” (2006)؛ الحرب على غزّة 2008 – 2009؛ الردّ الاستراتيجيّ على الخطر الاستراتيجيّ: ما بين الترهيب والاحتواء؛ المنحى الترهيبيّ: التهم الأمنيّة ضدّ عزمي بشارة؛ ملاحقات ضدّ الشيخ رائد صلاح؛ ملاحقات سياسيّة – أمنيّة أخرى (2000 – 2014)؛ الخلاصة.
تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة، تقديم ومقدّمة الدراسة، في إطار ملفّ خاصّ يتزامن مع معرض فتّوش للكتاب 2، حيث ستوقّع الدراسة باستضافة مؤَّلِفَيْها.
**********
نصّ التقديم:
قد يُصاب البعض بالدهشة من جرّاء أوجه التشابه إلى درجة التطابق شبه الكامل بين معظم ردّات الفعل الإسرائيليّة التي تواترت على مشاركة الفلسطينيّين في الداخل في الهبّة الشعبيّة الفلسطينيّة التي انطلقت في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2015 من القدس، وتغيّت أساسًا حماية الهويّة الفلسطينيّة والعربيّة والإسلاميّة لهذه المدينة، في مواجهة ما تتعرّض له من ممارسات تشويه وطمس، وبين أغلبيّة ردّات الفعل على مشاركتهم في هبّات شعبيّة مماثلة في السابق، وخصوصًا دورهم في الانتفاضة الثانية التي اندلعت عام 2000.
بيد أنّ أوجه الشبه هذه تشكّل، في رأينا، دليلًا آخر على أن جوهر تعامل إسرائيل مع الفلسطينيّين في الداخل، الذي تُعتبر المقاربة الأمنيّة السمة الأبرز المسيطرة عليه منذ ما بعد نكبة 1948، لم يتغيّر. وهذا الأمر ينطبق على ردّات الفعل الرسميّة بقدر ما ينطبق على ردّات الفعل الصادرة عن كثير من المحلّلين ومعاهد الأبحاث.
في واقع الأمر، ينطلق أصحاب هذه الردّات من تجاهل عامد لحقيقة أنّ مسألة الفلسطينيّين في الداخل جزء من القضيّة الفلسطينيّة. وكان عزمي بشارة حدّد ذلك منذ سنوات كثيرة، في كتابه المرجعيّ “العرب في إسرائيل: رؤية من الداخل”، حيث أكّد، من بين أمور أخرى، أنّ العرب في إسرائيل سكّان البلاد الأصلانيّون، وهم جزء من الأمّة العربيّة التي تعيش حالة صراع مع إسرائيل، وجزء من الشعب الفلسطينيّ الذي تعرّض إلى عمليّة سطو مسلّح على أرضه، شملت هدم مشروعه الوطنيّ. وشدّد على أنّ قضيّتهم نشأت تاريخيًّا بصفتها جزءًا من القضيّة الفلسطينيّة؛ فلولا نشوء قضيّة اللاجئين لما نشأت مسألة “أقليّة” عربيّة في الداخل. أمّا الممارسات الإسرائيليّة التي تتضمّن مصادرة أراضي العرب في الداخل، ومحاصرتهم، وتجميعهم ديموغرافيًّا، بموازاة العمل على إعادة تشكيل هويّتهم الثقافيّة بما يتناسب مع نهج احتوائهم بصفتهم أقلّيّات متنافرة متنازلة عن المساواة الكاملة، وعن الشخصيّة العربيّة الكاملة في دولة يهوديّة، فهذه كلّها ليست مجرّد مركّبات في سياسة تمييز عنصريّ، بل جزء من سياسة تشكّل استمرارًا تاريخيًّا لقضيّة فلسطين، وتضع لنفسها، أيضًا، أهدافًا تاريخيّة. وهي ما زالت تجري وتنفّذ بعقليّة كولونياليّة استيطانيّة، وتتّخذ شكلًا كولونياليًّا أيضًا.
على الرغم من ذلك، بوسعنا أن نشير إلى أنّ بعض أصحاب آخر ردّات الفعل الإسرائيليّة شخّصوا – ويمكن القول بكفاءة – أنّ إسرائيل فشلت في القضاء على الهويّة الوطنيّة المشتركة بين السكّان في حيّزات الوجود الفلسطينيّ، داخل إسرائيل وخارجها. وثبت مرّة أخرى، أنّه على الرغم ممّا يبدو أنّه “تطوّرات مستقلّة” لمجالات هذا الوجود، بقي ارتباط الفلسطينيّين قويًّا بماضيهم التاريخيّ، وبهويّتهم الفلسطينيّة، وبالعلاقات العائليّة، وكلّ هذه باجتماعها معًا، تولّـد شعورًا بالتضامن، يوضع موضع اختبار في كلّ مرّة ينشأ وضع يُلحق أذًى كبيرًا بحياة الفلسطينيّين، أو برموز وطنيّة ودينيّة، مثل المسجد الأقصى. ولقد ورد مثل هذا التشخيص، على سبيل المثال وليس الحصر، في سياق “تقدير موقف” جديد صادر عن مجموعة باحثين في “معهد أبحاث الأمن القوميّ” في جامعة تل أبيب، أواخر تشرين الأوّل/ أكتوبر 2015.[1]
غير أنّ هذا التشخيص على صحّته، لم يُفْضِ إلى أيّ استنتاج خارج عن المألوف، واكتفت مجموعة الباحثين تلك بدعوة الحكومة الإسرائيليّة إلى أن تدرس من جديد سياستها العامّة حيال “الأقليّة العربيّة في إسرائيل”، وبصورة خاصّة أن تسرّع وتوسّع تنفيذ الخطوات التي بُدئ بها من أجل “زيادة الاندماج الاقتصاديّ للسكّان العرب”. وأشارت في الوقت عينه إلى أنّ هذه الموضوعات بُحِثَت في الاجتماعات التي جرت في 21 أيّار/ مايو 2015، بين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ورئيس “القائمة المشتركة” (التي تشكّلت عشيّة الانتخابات الإسرائيليّة العامّة عام 2015)، وعلى أساسها جرى وضع جزء لا بأس به من الخطط التي ما تزال تنتظر التنفيذ.
ومثل هذه الدعوة صدرت، أيضًا، عن بعض أصوات عربيّة في الداخل، إلى ناحية تحميل أعضاء الكنيست العرب ولجنة المتابعة العليا مسؤوليّة تبعات هذه السياسة الإسرائيليّة.[2]
ونظرًا إلى أنّ هذه التطوّرات أتت بالتزامن مع ذكرى مرور عقد ونصف العقد على هبّة أكتوبر 2000، ارتأينا أن ننشر دراسة سابقة كنّا أنجزناها في إطار مشروع بحثيّ آخر، ووقفت في صلبها تلك الذكرى وما عنته بالنسبة إلى كينونة الفلسطينيّين في الداخل. وقد حاولنا فيها أن نغوص بشكل أساسيّ على المقاربة التي تتّسم بها السياسة الإسرائيليّة العامّة إزاء هؤلاء الفلسطينيّين ارتباطًا بتلك الهبّة، وفي ما إذا كانت مشدودة إلى جذور هذه السياسة منذ نكبة 1948، وصولًا إلى مطلع الألفيّة الحاليّة. وفي الوقت عينه، حاولنا أن نستقرئ آخر تجلّيات تلك السياسة ومظاهرها التي تأجّجت بالتزامن مع الذكرى السنويّة الـ 15 للهبّة، عبر قرار الإعلان عن الحركة الإسلاميّة – الجناح الشماليّ حركةً غير قانونيّة، الذي اتّخذه المجلس الوزاريّ الإسرائيليّ المصغّر للشؤون السياسيّة – الأمنيّة (الكابينيت) يوم 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015.
تسعى هذه الدراسة إلى توضيح أنّ إسرائيل لا تملك رغبة حقيقيّة في إنهاء حالة العداء بينها والسكّان الفلسطينيّين، كونها تعرف أنّ إنهاء هذا العداء يتطلّب منها، لزومًا، التخلّي عن الصيغة الحاليّة لنظام الدولة، وإقامة نظام عادل وديمقراطيّ مكانه. ومن هنا، تعمل إسرائيل في مسارين ثابتين ومتوازيين لكبح المطالب القوميّة والسياسيّة للسكّان الفلسطينيّين: المسار الأمنيّ (العصا)، ومسار المكافآت الاقتصاديّة (الجزرة). وتظلّ وتيرة استعمال هذين المسارين/ الأداتين مرهونة بالتصرّف السياسيّ للفلسطينيّين في إسرائيل، وبالأوضاع السياسيّة والأمنيّة العامّة.
ويُترجم المسار الأمنيّ بالملاحقة السياسيّة والأمنيّة الفرديّة للقيادات الفلسطينيّة، وبالملاحقة الجماعيّة، ولا سيّما في أوقات التوتّرات الأمنيّة. وتتوقّف الدراسة عند أبرز هذه الملاحقات ومداليلها وتداعياتها، وصولًا إلى عام 2014. وعلينا أن نضيف أنّ هذا ما حدث أيضًا بعد إنجاز الدراسة، مثلًا، إبّان فترة الحرب الأخيرة على غزّة (عمليّة “الجرف الصامد”، صيف 2014) حيث قمعت الشرطة التظاهرات السلميّة المناهضة للحرب التي قام بها الفلسطينيّون في إسرائيل، وباعتقال عشرات الشباب العرب، وكذلك هذا ما فعلته خلال الهبّة الفلسطينيّة (خريف 2015)، وصولًا إلى الهجمة المسعورة على حزب التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ وقادته ونشطائه، وقبل ذلك قرار إعلان الحركة الإسلاميّة – الجناح الشماليّ غير قانونيّة. ويتمثّل الهدف الأساسيّ من وراء هذا التعامل، من بين جملة أهداف أخرى، في منع قيام وحدة نضاليّة بين الفلسطينيّين داخل “الخطّ الأخضر” والفلسطينيّين في مناطق الضفّة الغربيّة، قد تكون بداية لالتحام النضال السياسيّ لكلّ فئات الشعب الفلسطينيّ في فلسطين التاريخيّة. وبالتوازي، تلجأ إسرائيل إلى سياسات الاحتواء بواسطة مسار السياسات الاقتصاديّة – الاجتماعيّة، ولا سيّما مع رؤساء السلطات المحلّيّة العربيّة، وعدد من رجال الأعمال العرب، بغية إيجاد “نماذج نجاح” على المستوى البلديّ وعلى مستوى رجالات الأعمال، ويكون هذا الأمر مشروطًا دائمًا بالموقف السياسيّ.
إنّ هذه الاستراتيجيّة واضحة من تقارير إسرائيليّة سابقة، وكذلك من تصريحات الجهات الأمنيّة والقيادات الإسرائيليّة. وتحاول إسرائيل، عادة، التعامل مع الأزمات الحادّة في علاقاتها مع السكّان الفلسطينيّين عن طريق تحويل المطالب السياسيّة والقوميّة التي يطرحها السكّان الفلسطينيّون إلى مطالب مدنيّة تُترجم بالجوانب الماليّة وحسب، وتُطرح مشاريع اقتصاديّة للتعامل مع الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة للفلسطينيّين في إسرائيل. هذا ما حدث حين طرحت الحكومة الإسرائيليّة، عام 2001، خطّة الأربعة مليارات شيكل لإلغاء نتائج هبّة أكتوبر 2000. وللأسف، قبلت لجنة المتابعة في حينه هذه المعادلة.
ولكي لا تُجْهَض نتائج تعزّز الوعي القوميّ والهويّة الوطنيّة، نعتقد أنّه يتعيّن على القيادات الفلسطينيّة رفض أي محاولات إسرائيلية لعرض برامج اقتصاديّة- ماليّة فقط لإخماد ألسنة لهب التحوّلات في الوعي والمطالب السياسيّة للفلسطينيّين في الداخل، وذلك كي لا نختزل القضيّة القوميّة في مطالب اقتصاديّة، وكي لا تُحوّل قضيّتنا الكبرى إلى مطالب مدنيّة اقتصاديّة فقط.
(ربيع 2017)
نصّ المقدّمة:
اهتمّت أغلبيّة الأبحاث الأكاديميّة حول مكانة وأوضاع الفلسطينيّين في إسرائيل، وحول السياسات المعمول بها تجاههم، بعرض مقاربات نظريّة لتفسير طبيعة النظام في إسرائيل ومكانة الفلسطينيّين فيها، واهتمّت، أيضًا، بالإجابة عن مدى ديمقراطيّة هذا النظام وتأثيره في السكّان الفلسطينيّين.
وبصورة عامّة، تراوحت الإجابات والتفسيرات بين نفي الطابع الديمقراطيّ لدولة إسرائيل من جرّاء تغليب قيم الدولة اليهوديّة الإثنيّة (يفتاحئيل 1999؛ بشارة 2005؛ روحانا وغانم 1998)، وطرح مقاربات بشأن خصوصيّة النظام الديمقراطيّ في إسرائيل، على الرغم ممّا ينطوي عليه ذلك من تناقض مع النماذج الديمقراطيّة العاديّة أو الطبيعيّة (سموحة 2001؛ شافير وبيلد 2002)، وكذلك إبعاد تهمة انعدام الديمقراطيّة عنها (نويبرغر 1998؛ يعكوفسون وروبنشتاين 2003).
بيد أنّ معظم تلك الأبحاث والمقاربات النظريّة، على اختلاف تعاملها مع طبيعة النظام في إسرائيل، سواء بصفتها دولة غير ديمقراطيّة، أو شبه ديمقراطيّة، أو ديمقراطيّة معطوبة، لم يشمل التطرّق على نحو واسع إلى مسألة استعمال أداة الملاحقة الأمنيّة، وإلى دور الأذرع الأمنيّة للدولة بصفتها إحدى الأدوات السياسيّة المعمول بها تجاه السكّان الفلسطينيّين، وإلى مساهمتها في تحقيق أهداف سياسيّة صرفة، ولم يوضّح وظيفتها في المقاربة النظريّة المقترحة. وجرى ذلك على الرغم من أنّ التعامل أو المقاربة الأمنيّة شكّلت السمة الأبرز المسيطرة على سياسة الدولة الإسرائيليّة بعد نكبة 1948، إزاء مَنْ تبقّى من الفلسطينيّين داخل المناطق التي أُخضعت إلى سيادتها (بنـزيمان ومنصور 1992؛ بويميل 2006؛ ريخس ورودنتسكي 2009؛ Reiter 2009). في المقابل، حظي هذا الجانب الأمنيّ من تعامل الدولة مع السكّان الفلسطينيّين، باهتمام في دراسة تاريخ تعامل الدولة مع السكّان الفلسطينيّين، أو في كتب مذكّرات القيادات الإسرائيليّة. وهذا الواقع أوجد فصلًا نظريًّا وبحثيًّا بين مقاربات سياسيّة تهتمّ بتحليل النظام، ومقاربات أو أدبيّات السياسة الأمنيّة تجاه المواطنين الفلسطينيّين.
وتسوّغ دراسات التاريخ تعامل الدولة الأمنيّ تجاه مَنْ تبقّى من الفلسطينيّين في حدود دولة إسرائيل، بصفته ضرورة لا بدّ منها، في إثر ما ترتّب على النكبة من نتائج. وتدّعي أنّه لم يكن لدى صنّاع القرار تصوّر واضح حول كيفيّة التعامل مع السكّان الفلسطينيّين، وأنّ الاعتقاد السائد لدى صنّاع القرار الإسرائيليّ في ذلك الوقت، أنّ السكّان الفلسطينيّين سوف يشكّلون تهديدًا على الدولة الجديدة، بواسطة التعاون مع أطراف خارجيّة لتنفيذ عمليّات عسكريّة أو أمنيّة ضدّها (بويميل 2006؛ كوهين 2006). كما أنّ الهدف من هذه المقاربة الأمنيّة تمثل في منع عودة اللاجئين الفلسطينيّين إلى وطنهم وأراضيهم التي شُرّدوا عنها عنوة، وفي منع أيّ مطالبة بالانفصال عن دولة إسرائيل، ولا سيّما أنّ معظم هؤلاء الفلسطينيّين ظلّ يعيش في مناطق حدوديّة متاخمة لدول عربيّة (في مناطق الجليل المتاخمة للبنان وسورية، والمثلّث المتاخمة للأردنّ، والنقب المتاخمة لمصر).
وتشير معظم الأبحاث التي تناولت الأعوام الأولى من إقامة إسرائيل، إلى أنّه كانت لرئيس الحكومة الإسرائيليّة الأوّل، ديفيد بن غوريون، يد طولى في الفرضيّات الأساسيّة، التي وقفت وما تزال تقف في صلب السياسة الإسرائيليّة الرسميّة إزاء الفلسطينيّين في الداخل، والمستمرّة حتّى الآن، وفي مقدّمها فرضيّة أنّ هؤلاء الفلسطينيّين “خطر أمنيّ” و”طابور خامس” (بويميل 2006)، ولذا، فإنّهم يشكّلون جزءًا لا يتجزّأ من “مشكلات إسرائيل الأمنيّة”، ما يعني أنّه وفقًا لسلّم الأفضليّات القوميّة، فإنّ الاعتبارات الأمنيّة في كلّ ما هو متعلّق بالمواطنين العرب ذات وزن أثقل من اعتبارات “الروح الديمقراطيّة والمساواة” (كوهين 2006؛ بويميل 2006؛ جريس 1979).
وقد شكّل الحكم العسكريّ في العقدين الأوّل والثاني من إقامة دولة إسرائيل، الإطار العامّ للتعامل الأمنيّ وللسيطرة والتحكّم بالفلسطينيّين في الداخل (بويميل 2006). وخلال هذه الفترة، طاول التعامل الأمنيّ جميع مناحي حياة الفلسطينيّين في دولة إسرائيل، وتسبّب بإخضاع كلّ مَنْ تبقّى إلى الرقابة الأمنيّة، بالإضافة إلى أنّه كانت ملاحقات أمنيّة سياسيّة للتيّارات السياسيّة الفاعلة، وبالأساس تجاه أفراد كثيرين من الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ، وتجاه حركة “الأرض”.[3]
من الواضح أنّ وضع السكّان العرب في خانة التهديد الأمنيّ أو الخطر الأمنيّ، في الأدبيّات الإسرائيليّة، يأتي بهدف شرعنة التعامل الأمنيّ معهم وتبريره. لكن، في الوقت عينه، ثمّة تجاهل إزاء الأهداف السياسيّة للأدوات الأمنيّة. في هذا الجانب تحديدًا، يؤكّد نديم روحانا أنّ استعمال الأدوات الأمنيّة والملاحقة الأمنيّة رديفًا للملاحقة السياسيّة، يسهّل قبول هذه الملاحقة من طرف المجتمع الإسرائيليّ، ويوفّر الحجج الضروريّة لانتهاك قيم ديمقراطيّة شكليّة، من جرّاء تعامل المجتمع الإسرائيليّ والمؤسّسة مع الجانب الأمنيّ بصفته قيمة عليا تفوق القيم الأخرى كافّة (روحانا 1997). أمّا عزمي بشارة، فيقول إنّ التناقض بين الطبيعة الكولونياليّة والديمقراطيّة ما سهّل نشر الشعور بالتهديد وتقديس الأمن لدى المجتمع والدولة في إسرائيل (بشارة 2005).
أمّا عن الأهداف السياسيّة للأدوات الأمنيّة في تعامل دولة إسرائيل تجاه السكّان العرب، فيقول روحانا إنّها تشكّل ركيزة مهمّة من بين ثلاث ركائز لتحليل السياسات الإسرائيليّة تجاه الفلسطينيّين: إسرائيل بصفتها دولة يهوديّة، وإسرائيل بصفتها دولة ديمقراطيّة، والعقليّة الأمنيّة أو الهاجس الأمنيّ الإسرائيليّ الدائم. ويضيف أنّه حين تفشل أدوات ووسائل الديمقراطيّة الخاصّة بإسرائيل في الدفاع عن يهوديّة الدولة، أو في منع أيّ تهديد للطابع اليهوديّ للدولة، فإنّ المؤسّسة تلجأ إلى استعمال المسوّغات الأمنيّة. أي أنّ إسرائيل عرّفت، فضلًا عن التعريفات الأمنيّة المعهودة، الأهداف القوميّة، إلى ناحية الحفاظ أو حماية الفكر والأيديولوجيا المهيمنة السائدة، والحفاظ على أهداف المجموعة الإثنيّة المسيطرة، مركّبًا من مركّبات الأمن القوميّ. وينبّه روحانا إلى أنّه في حال تعريف الأهداف الأمنيّة أو المصلحة الأمنيّة بصفتها دفاعًا عن مصالح أيديولوجيّة، أو هيمنة فئة إثنيّة، قد يتحوّل العمل السياسيّ التقليديّ الاعتياديّ، والمطالب اليوميّة، والمطالب بتقاسم الموارد، إلى تهديدات أمنيّة.
من هنا، يمكن القول إنّ الكتابة الإسرائيليّة حول تاريخ التعامل الأمنيّ مع السكّان العرب، استعملت التعريف الضيّق لـ “الأدوات والأهداف الأمنيّة”، واختزلتها إلى التهديد الأمنيّ للدولة الناشئة، مثل تهديد بعمل عسكريّ، أو مقاومة، أو علاقات أمنيّة مع منظّمات شبه عسكريّة، وما إلى ذلك. أمّا قراءة روحانا، فترى أنّ الدولة تستعمل تعريفًا واسعًا لمصطلح الأمن، يندرج فيه الحفاظ على أهداف أيديولوجيّة وسياسيّة، ومصلحة سيطرة المجموعة الإثنيّة. وقد أضاف شفطان، مؤخّرًا، مبدأ “يهوديّة وديمقراطيّة” دولة إسرائيل بصفته مركّبًا أساسيًّا في عقيدة الأمن القوميّ الإسرائيليّ (شفطان 2011). في هذه الحال، تتوسّع الأدوات الأمنيّة ويدخل ضمنها تحقيق أهداف سياسيّة، وملاحقة سياسيّة، ومحاولة قمع تيّارات سياسيّة تهدّد الأهداف الأيديولوجيّة للدولة، وسيطرة المجموعة الإثنيّة – اليهوديّة، حتّى لو كان الخطاب الذي تستعمله ديمقراطيًّا.
إنّ هذا المفهوم للملاحقة الأمنيّة تعزّز أكثر فأكثر منذ نهاية ثمانينات القرن العشرين الماضي بعامّة، نتيجةً أو ردّةَ فعل على تنامي تحدّي يهوديّة الدولة من جانب عدد من القيادات العربيّة والأكاديميّين العرب، ولا سيّما بعد يوم الأرض عام 1976 (روحانا 2008؛ غانم ومصطفى 2009؛ Jamal 2008; Rouhana & Ghanem 1998; Reiter 2009). وتفاقم هذا المفهوم بشكل أوسع وأخطر على مدار الأعوام المنقضية منذ هبّة تشرين الأوّل/ أكتوبر 2000، التي تُعَدّ، في رأينا، مفترقًا مهمًّا، ذلك بأنّها عُدَّت (أي هبّة أكتوبر)، إسرائيليًّا، امتدادًا للانتفاضة الفلسطينيّة الثانية (انتفاضة القدس والأقصى)، وعزّزت رؤية الفلسطينيّين في إسرائيل بصفتهم جزءًا من “العدوّ” الفلسطينيّ.
ومن شأن العودة إلى النصوص الإسرائيليّة المتعلّقة بتلك الفترة، أن تؤكّد هذا الأمر بوضوح وجلاء كبيرين، كما ينعكس ذلك، مثلًا، في ما يلي:
– أوّلًا، دلالات تأليف “لجنة أور” التي تقصّت وقائع تلك الهبّة، وما خلصت إليه من استنتاجات، والتعامل الإسرائيليّ الانتقائيّ مع استنتاجاتها (من خلال “لجنة لبيد” وأداة الخدمة المدنيّة)؛
– ثانيًا، عام 2000، تأسّس “مؤتمر هرتسليا حول ميزان المناعة والأمن القوميّ الإسرائيليّ”، الذي يناقش سنويًّا، منذ ذلك العام، “الموضوعات الساخنة” التي “تقلق بال إسرائيل”، ويصوغ التحدّيات المقبلة في المدى القريب والمدى البعيد. ومنذ أوّل مؤتمر عُقد عام تأسيسه، فإنّ موضوع العرب في الداخل يقف في صلب هذه الموضوعات.
تتبنّى هذه الدراسة الطرح الذي قدّمه روحانا أعلاه، بشأن استعمال الأدوات الأمنيّة بغية تحقيق أهداف سياسيّة، ومن أجل الدفاع عن أهداف أيديولوجيّة، وعن مصالح المجموعة الإثنيّة اليهوديّة المهيمنة. وتتابع تجلّيات ذلك في الأعوام الأخيرة، وخصوصًا استعمال الدولة أدوات الملاحقة الأمنيّة حين تفشل أدوات الملاحقة السياسيّة التقليديّة في الإجهاز على تيّارات سياسيّة فلسطينيّة ترفض الخضوع لموازين القوى السياسيّة القائمة، وتطرح بدائل لطبيعة النظام القائم في دولة إسرائيل. ويستهدف هذا النوع من الملاحقة الأمنيّة رموز الوعي القوميّ للفلسطينيّين، ومشاريع سياسيّة مناهضة للمشروع الصهيونيّ، ولا سيّما على ضوء تغيير الوعي السياسيّ الجماعيّ للفلسطينيّين في إسرائيل (روحانا وآخرون 2011). وبذلك، فإنّ هذا النوع يختلف عن الملاحقة الأمنيّة السياسيّة التقليديّة القائمة منذ إقامة دولة إسرائيل، التي كانت تعمل على منع تطوّر وعي سياسيّ قوميّ مناهض – وهو ما كانت حركة “الأرض” تؤسّس له. ويستهدف هذا النوع رموزًا وطنيّة وتيّارات سياسيّة منظّمة ومسجّلة قانونيًّا – قسم منها ممثّل في الكنيست الإسرائيليّ – ويرمي إلى تغيير الوعي السياسيّ والمواقف السياسيّة للفلسطينيّين في إسرائيل.
بكلمات أخرى، تتابع هذه الدراسة استعمال إسرائيل الأدوات الأمنيّة لتحقيق أهداف سياسيّة، أو ما يُعرف بالملاحقة السياسيّة بأدوات أمنيّة، التي تهدف في الآن ذاته إلى كبح الوعي القوميّ والنضال السياسيّ المتحدّي للصهيونيّة لدى المجتمع الفلسطينيّ في الداخل، وذلك عبر مراحل زمنيّة مختلفة مرتبطة بتطوّر الوعي القوميّ لدى الفلسطينيّين في الداخل. وهي تتركّز، تحديدًا، في ملاحقة النائب السابق عزمي بشارة، مؤسّس حزب التجمع الوطنيّ الديمقراطيّ، وملاحقة الشيخ رائد صلاح، رئيس الحركة الإسلاميّة – الجناح الشماليّ المحظورة.
ولا بُدّ من التنبيه إلى أنّ هذه الدراسة لا تشمل جميع حالات المضايقة أو التضييق السياسيّ والأمنيّ، التي تنامت وتعدّدت في إسرائيل، وخصوصًا منذ اندلاع الانتفاضة الثانية وهبّة أكتوبر عام 2000