إرث عرفات… تفكيك الوطنية الفلسطينية
في مناطق السلطة الفلسطينية يحيون اليوم الذكرى الـ 15 لوفاة ياسر عرفات، زعيم م.ت.ف ومؤسس السلطة.
لأبناء جيل عرفات، أناس من عمر وجيل أبو مازن، الزعيم الحالي للسلطة الذي احتفل هذه السنة بيوم ميلاده الـ 83، يبقى عرفات رمز الكفاح الفلسطيني ضد إسرائيل، بل والممثل الواضح للقضية الفلسطينية على أجيالها. درة التاج في هذا الكفاح كانت بلا شك كلمة عرفات أمام الجمعية العمومية في نيويورك في 1974، قبل 45 سنة بالضبط، وبعد نحو عقدين من ذلك التوقيع على اتفاق أوسلو في أبريل 1993، الذي منح الفلسطينيين وم.ت.ف اعترافاً إسرائيلياً وسيطرة إقليمية في الضفة وقطاع غزة.
ولكن بالنسبة لمعظم الجمهور الفلسطيني، فإن عرفات هو ذكرى بعيدة بل وشخصية غير ذات صلة. ففي أثناء الـ 15 سنة التي انقضت منذ وفاة ياسر عرفات، فقدت القضية الفلسطينية مركزيتها في نظر العالم العربي، بل وفي نظر العالم الواسع.
لقد نبع التآكل في مكانة الفلسطينيين من خليط فتاك من انعدام التسامح، ومن تعب وملل كثيرين في العالم من طريقهم وسلوكهم، وكذلك من الفهم العميق بأن القضية الفلسطينية ليست الوحيدة، بل وعلى ما يبدو ليست الأهم التي على جدول أعمال المنطقة؛ وكذلك من الفهم أن هناك مشاكل ملحة بقدر لا يقل، والأهم من ذلك أن الحل لا يرتبط على الإطلاق بالقضية الفلسطينية وليس منوطاً بها. فعمليات الإرهاب لتنظيم القاعدة، وبعد ذلك ظهور “داعش”، مست هي أيضاً بالفلسطينيين إذ دلت –لمن احتاج لمثل هذا الدرس في العالم– على أنه لا ينبغي التمييز بين “الإرهاب الشرير” و”الإرهاب الخير”، وأن من يبدي تسامحاً وتفهماً تجاه الإرهاب الفلسطيني ضد إسرائيل، سيجد نفسه أمام إرهاب إسلامي راديكالي.
لقد كان طريق عرفات هو طريق المفاوضات الذي يترافق مع العنف والإرهاب كوصفة لتحقيق مطالبه. أما أبو مازن، خليفته، وإن كان يعلن المرة تلو الأخرى بأنه يتنكر للإرهاب، ولكن ليس في وسعه أن يقترح طريقاً آخر، أكثر واقعية، طريق السلام القائم على الحلول الوسط والتنازلات التي تسمح بتحطيم الطريق المسدود الذي علق فيه الفلسطينيون.
وأخيراً، إن فشل السلطة في إقامة مؤسسات حكم تؤدي مهامها ونظيفة من الفساد، كلفها فقدان شرعيتها في نظر السكان الفلسطينيين. قد رأى هؤلاء بعيون تعبة كيف تتدفق مليارات الدولارات، من مساعدات الأسرة الدولية، إلى الجيوب الخاصة، أو في حالة حماس إلى أنفاق الإرهاب وشراء الصواريخ التي لا حاجة لسكان القطاع بها. يتضح من كل هذا أن الحركة الوطنية الفلسطينية وصلت إلى نهاية طريقها، فقد فشلت في إدارة مؤسسات السلطة، ولا تنجح في فرض إمرتها على الفصائل والمنظمات المسلحة، مثل حماس، وفقدت تأييد العالم، وأكثر من ذلك، ليس لها طريق يمكنها أن تعرضه على أبناء شعبها.
لا غرو أن الفلسطينيين يهجرون السلطة ولكنهم يهجرون حماس أيضاً. ينبغي الافتراض بأنه إذا كان الخيار في يد الفلسطينيين، فإن كثيرين منهم يفضلون أن يصبحوا مواطني دولة إسرائيل، مثلما يفعل، بالمناسبة، الكثير من سكان شرقي القدس. هذه أنباء تبعث على تحدي إسرائيل، التي تحتاج –في الواقع الذي خلقته اتفاقات أوسلو– إلى شريك فلسطيني كي يحافظ على الهدوء، بل ويحاول الدفع إلى الأمام لتسوية تضمن الاستقرار على مدى بعيد.
سخرية القدر هي أن تحدي إسرائيل لم يعد ينبع من الوطنية الفلسطينية التي تتحدى وجود دولة إسرائيل، بل من فشل هذه الحركة الوطنية التي تجلب الفلسطينيين إلى حضن إسرائيل، وتلزمها بأن تحرص على حماية هويتها كدولة يهودية وديمقراطية.