إذا كنت تظن أن ميركل لا تزال قوية، فاعلم أنها فقدت زمام المبادرة.. وإليك خطة القوميين في ألمانيا لطرد لاجئي 2015
على مدار 14 عاماً تقريباً من توليها منصب مستشارة لألمانيا، حدَّدت أنجيلا ميركلوجسدت أرضية مشتركة لأوروبا: براغماتية، توافقية، داعمة لمنافع التجارة المُربِحة، بورجوازية صغيرة، وفوق كل شيء مستقرة. لذلك لا عجب أنَّ زعيمة القوة الاقتصادية الرئيسية بين دول أوروبا الوسطى هيمنت على المركز السياسي لفترة طويلة.
لكن ماذا لو سقطت ميركل، هل يمكن أن يصمد المركز؟
هذه أسئلة تزداد إلحاحيتها في الوقت الذي تكافح فيه الزعيمة الأوروبية، التي كانت في يوم من الأيام حصينة، من أجل الحفاظ على تماسك ائتلافٍ ممزق على حد وصف تقرير صحيفة The Guardian البريطانية. تتمثل القضية العاجلة، التي من المحتمل أن تتأزم، الإثنين 18 يونيو/حزيران، في خلافٍ محتد حول سياسة الاتحاد الأوروبي إزاء الهجرة.
مع ذلك، تتراكم مشكلات أخرى ذات عواقب لا يمكن التنبؤ بها
وتهدد تماسك أوروبا في المستقبل. فقد كُتِبت شهادة وفاة ميركل السياسية عدة مرات، لكن الصيغة النهائية على وشك الاكتمال الآن، وهي تصارع للحفاظ على تماسك حكومتها. وتتعرض ميركل لانتقادات شديدة من حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف المناهض للهجرة، الذي استطاع دخول البرلمان الألماني (البوندستاغ) بقوة في الخريف الماضي. ولديها كذلك مشكلات على يسارها مع الاشتراكيين الديمقراطيين المتراجعين الذين لا يحظون بشعبية وتعتمد عليهم للحصول على الدعم.
لكن الأمر الأكثر جدية هو وزير داخلية ميركل
فـ”ماما” ميركل، كما سمَّاها اللاجئون السوريون عام 2015، تتعرَّض للهجوم من داخل حكومتها، من جانب وزير الداخلية هورست زيهوفر، الزعيم السابق لحزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي اليميني، المتحالف مع حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تتزعمه ميركل.
وزير الداخلية هذا، طالب باختصار بطرد معظم لاجئي عام 2015
إذ يطالب زيهوفر ألمانيا بعدم قبول المهاجرين الذين دخلوا الاتحاد الأوروبي لأول مرة عبر دول أخرى أعضاء في الاتحاد، وهو ما يعني كل المهاجرين تقريباً.
من وجهة نظر ميركل، فإنَّ مثل هذا الحاجز قد يكون غير قانوني وسيُدمِّر جهودها -المستمرة منذ أزمة اللاجئين السوريين عام 2015، عندما قبلت ألمانيا مليون مهاجر- الرامية لوضع سياسة متوازنة على نطاق الاتحاد الأوروبي، تخص الحصول على حصص طوعية من المهاجرين. وتقول ميركل إنَّ زيهوفر ينبغي أن ينتظر قمة الاتحاد الأوروبي، المقرر عقدها هذا الشهر يونيو/حزيران، بهدف التوصل إلى خطة مشتركة.
لكن دول الاتحاد لن توافق على ذلك
مشكلة هذا النهج مزدوجة. إذ يشكو حزب زيهوفر، الذي يواجه صداماً انتخابياً حرجاً مع حزب البديل من أجل ألمانيا، في أكتوبر/تشرين الأول المقبل، من أنَّ الاتحاد الأوروبي لطالما كان يحاول -ويخفق- في الاتفاق على ذلك لسنوات. هناك اعتراض آخر، كما يرى منتقدو المستشارة الألمانية، وهو أنَّ معظم الألمان، الذين يتذكرون سياسة “الباب المفتوح” التي انتهجتها تجاه اللاجئين في عام 2015، لا يثقون بميركل في هذه القضية. وتشير استطلاعات الرأي إلى أنَّ 65% يدعمون تشديد الرقابة أكثر على الحدود.
وأظهر خلاف وقع الأسبوع الماضي بين فرنسا وإيطاليا، نتيجة قرار روما رفض دخول سفينة المهاجرين “أكواريوس”، التي تحمل 629 مهاجراً جرى إنقاذهم قبالة السواحل الليبية، كيف أنَّ احتمالية التوصل إلى اتفاق في قمة بروكسل هو أمرٌ غير مرجح. وتعتقد القيادة الشعبوية الجديدة في إيطاليا، بالاشتراك مع محور ناشئ لحكومات ذات توجه قومي في النمسا والمجر وبولندا، أنَّ لديها تفويضاً لوقف تدفق المهاجرين.
خاصة دول خط المواجهة..
فما يسمى “دول خط المواجهة” مثل اليونان وإسبانيا وإيطاليا تتهم “دول المقصد” مثل ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، بعدم قبول حصة عادلة من المهاجرين.
وتفاقمت الانقسامات بسبب فشل مبادرة كبرى تدعمها ميركل حتى الآن، تتمثل في إنشاء صندوق تمويل طوارئ تابع للاتحاد الأوروبي من أجل إفريقيا، يبلغ حجمه عدة مليارات من اليوروات، بهدف الحد من الهجرة عن طريق معالجة “الأسباب الجذرية” في أماكن مثل نيجيريا وإريتريا والصومال.
إلا أن هذه الجهود طالتها الكثير من الفضائح
فقد ساهمت تقارير حول فضائح متعلقة بإساءة معاملة المهاجرين، والدعاية التحريضية التي تركز على الجرائم التي يرتكبها طالبو اللجوء، في إذكاء التوترات.
تتجاوز مصاعب ميركل مجرد هجوم من وزيرٍ كبير متمرد. إذ يرى كثيرٌ من المحللين أنَّها لم تُعِد ترسيخ سلطتها المحلية منذ خسارة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي بعض مقاعده في الانتخابات الاتحادية، في سبتمبر/أيلول الماضي، وتعثُّرها لعدة أشهر في تشكيل ائتلاف حكومي. وفيما يتعلق بالقضايا الدولية، تبدو ميركل فاقدة الحماس ومحبطة، وفقاً لمراقبين يراقبون الأوضاع عن كثب.
وميركل محبطة..
وترسم مجلة Der Spiegel الألمانية صورة لزعيمة اهتزت بشدة نظرتها العالمية لنظامٍ دولي قائم على القواعد، بسبب الإفلات الواضح من العقاب الذي تتمتع به أنظمة استبدادية مثل نظام الرئيس فلاديمير بوتين في روسيا، والرئيس شي جين بينغ في الصين. وقالت Der Spiegel إنَّ مجيء دونالد ترمب، “الزعيم المثير للفوضى”، وعقيدته “أميركا أولاً” قد أثبتا أنَّهما أكثر ضرراً مما كانت تخشى ميركل.
وأفادت المجلة نقلاً عن أحد المقربين منها قوله: “لو كانت هيلاري كلينتون فازت بالانتخابات الأميركية، لما كانت ميركل ستترشح مرة أخرى في عام 2017. لكن هذا لم يحدث. وكتب بن رودز، مستشار الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، في كتابه الجديد عن السنوات التي قضاها في الجناح الغربي، أنَّ ميركل شعرت بأنَّها مُلزمة بالدفاع عن النظام العالمي الحر في أعقاب فوز ترمب”.
لكنها مصرة على الكفاح..
رغم أنه مرهق للغاية. فقد ولَّت تلك الأيام التي أعقبت رحيل أوباما مباشرةً عندما يُرحَّب بميركل كمنقذة وحيدة للديمقراطية الغربية. ويبدو أنَّ ترمب يثأر من ألمانيا على خلفية ما يرى أنَّها ممارسات تصديرية غير عادلة وإنفاق دفاعي غير متكافئ. هل هناك مسحة تنافسية ومعاداة للمرأة في سلوكه؟ ربما.
على أية حال، سيكون لدى برلين الكثير لتخسره إذا تسبَّبت رسوم الاتحاد الأوروبي الجمركية الانتقامية التي وعد بها ترمب، والتي فشلت ميركل في تخفيفها، في إثارة حرب تجارية شاملة مع واشنطن. في الوقت نفسه، يتآمر سفير ترمب القوي الصاخب في ألمانيا، ريتشارد غرينيل، علناً مع منافسيها المحافظين.
والكفاح أصغر مشكلاتها
فأوروبا -حيث كانت بصمة ميركل هي الأهم لفترة طويلة- قد يَثبُت أنَّها أكبر خيبة أمل لها في نهاية حياتها المهنية. إذ جرى تجاوز ميركل بأجندة الإصلاح التي تبنَّاها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ويسعى الرئيس الفرنسي الجديد المتحمس إلى مزيدٍ من التكامل الأوروبي في المسائل المالية، وسياسة منطقة اليورو، والتنمية والدفاع. وهناك خلاف آخر يلوح في الأفق حول تمويل أول عجز في ميزانية الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا.
يشك كثيرون في ألمانيا أنَّ ماكرون يريد من برلين تسديد فاتورة خطته الكبرى. ودول الاتحاد الأوروبي الأصغر متشككة هي الأخرى. فالضغط الشعبي هو باتجاه انخراطٍ أقل من جهة بروكسل في بلدانهم، وليس العكس، والشاهد على ذلك المزاج العام المتشكك تجاه الاتحاد الأوروبي موجود في إيطاليا واليونان. وبدلاً من بناءأوروبا أكثر اتحاداً، يمكن لأفكار ماكرون تمزيقها إرباً.
اتَّسمت استجابة ميركل بالحذر على نحو مميز. لكن الإحساس بأنَّها خسرت زمام المبادرة ولم تعد السيدة الرائدة التي تُبقي الأمور متماسكة معاً، أصبح واضحاً. ومن خلف ظهرها، يتسلل القوميون والشعبيون في ألمانيا كاللصوص في الظلام، شاهرين سكاكينهم.