إذاً سنكتفي بمشاهدته دون تناوله.. في المغرب حيث ينتجون كميات هائلة من الأسماك لكنهم لا يستطيعون شراؤه
تحمل قُفَّة تقليدية منسوجة من الدوم، مُتجولة بين الباعة ممَّن يرصُّون بضاعتهم ويضيفون إليها قِطعاً من الثلج بين فترة وأخرى. هُنا السوق المركزي وسط العاصمة الرباط، اختلفت المعروضات وتنوعت وتباينت أسعارها ليبقى الجانب المُخصَّص لبائعي الأسماك الأكثر غلاء والأقل رواجاً.
يوم رمضاني هادئ لا يَشي بما سماه ابراهيم، صاحب محل لبيع الأسماك، “حرباً ضروساً” خاضها صباحاً؛ حتى يتمكن من اقتناء صناديق قليلة من سوق الجملة؛ بسبب المُضاربات والمزايدات وقلة الكميات المرصودة للمغاربة، قبل أن يجيب عن سؤال خديجة بقُفَّتها الخاوية إلا من حزمٍ من الأعشاب المُنسِّمة، بأن ثمن الكالامار (الحبّار) يبلغ 180 درهماً للكيلوغرام الواحد، ما يعادل 20 دولاراً.
المغاربة وبعد أن ضاقوا ذرعاً بغلاء الأسعار، أطلقوا حملة على مواقع التواصل الاجتماعي لمقاطعة الأسماك تحت وسم “خليه يعوم”، (دعْهُ يسبح)، ووسم “خليه يخنز”،(دعه ينتَن)، في حين تفاعلت صفحات الكثيرين مع الحملة الجديدة، وأعلن مواطنون انخراطهم في الحملة إلى حين خفض الأسعار.
أسعار ملتهبة
بقيت السيدة ذات الـ40 عاماً متجمِّدة في مكانها، ليُكمل بائع السماك حديثه لـ”عربي بوست”، مؤكداً أن العرض والطلب يُؤثران بشكل كبير على الأسعار الحرة بالأسواق المغربية، خاصة أن الكميات الموجودة قليلةً مقارنة مع إقبال المغاربة المتزايد على الأسماك وفواكه البحر خلال رمضان.
لم تتمالك خديجة نفسها لتبادر إلى الكلام دون مقدمات، وكأنما تحدث نفسها: “وفين يمشي المسكين؟” (ما مصير الفقراء والمساكين؟)، الكروفيت (الجمبري) 140 درهماً (15 دولاراً)، الأسماك البيضاء تجاوزت 100 درهم للكيلو، حتى السردين وصل ثمنه إلى 30 درهماً (3.5 دولار) في وقت كان لا يتجاوز 13 درهماً (دولار ونصف الدولار).
كلام المرأة المُتحسِّرة لَم يُجانب الصواب؛ إذ خرجت جامعة غرف الصيد البحري بالمغرب، لتؤكِّد أن ثمن سمك السردين داخل الموانئ يتراوح بين 3 دراهم كحد أدنى و8 دراهم كحد أقصى، وذلك قبل شهر رمضان وخلاله.
الجامعة التي دخلت على خط الارتفاع الكبير لأسعار الأسماك، عَزَت الأمر إلى تصرُّفات وُسطاء تجارة السمك من “عديمي الضمير”، وفق وصفها، الذين يلجأون إلى نهج سلوكيات غير شريفة باحتكار هذه السلع واستغلال مثل هذه المناسبات، حيث يكثر الطلب على هذا المنتج؛ للرفع من ثمنه على حساب المستهلك ومُجهِّزي مراكب الصيد.
“الحل هو المقاطعة”، تقول خديجة التي بدا عليها السَّخط، متابعةً: “خسائر عديدة تكبدتها الشركات الثلاث التي قاطعها المغاربة منذ شهر، ولا شك في أن الأمر نفسه سيحل مشكل السمك”، التفت البائع إليها وقال بلهجة لا تخلو من الغضب: “في الأصل، أسعار السمك مرتفعة طيلة السنة وترتفع أكثر خلال رمضان، كل الثروة التي يتم اصطيادها تصدَّر إلى أوروبا ويتركون للمغاربة القليل فقط، نتحارب من أجل اقتناء جزء بسيط منه، هذا هو المغرب!”.
“خلّيه يعوم”!
بدأها المغاربة بمقاطعة الحليب والبنزين والمياه المعدنية، وامتدت لتصل اليوم إلى مختلف أنواع الأسماك، في حين سجل بوعزة الخراطي، رئيس الجامعة المغربية لحقوق المستهلك (غير حكومية)، نجاح المقاطعة بشكل كلي في سوق السمك بمدينة القنيطرة وانخراط الساكنة فيها.
الخراطي متحدثاً لـ”عربي بوست”، لفت إلى أن المغرب ورغم امتلاكه سواحل ممتدة تصل إلى 3500 كيلومتراً، فإن الأسعار مرتفعة طوال السنة، فضلاً عن كونها تتضاعف مرتين إلى ثلاث خلال رمضان، “المياه المغربية تضم أزيد من 2000 نوع من السمك، المغاربة يعرفون منها 250 نوعاً لا غير، فيما لا تتجاوز تلك المستهلَكة العشرات”، وفق تعبيره.
ما يرمي إليه المغاربة، عبر حملة مقاطعة الأسماك، يجده بوعزة الخراطي، رئيس الجامعة المغربية لحقوق المستهلك، خطوة مشروعة وعملية لخفض الأثمنة وإلحاق ضرر كبير بالقطاع، خاصة أن السمك من المواد الغذائية سريعة التلف، لافتاً في الوقت ذاته إلى أنه ليس بالحل الدائم، داعياً إلى تفعيل أدوار مؤسسات تحمي المستهلك طوال السنة وليس فقط خلال المناسبات؛ كمجلس المنافسة، والمجلس الاستشاري للاستهلاك، وإخراج مدونة حقوق المستهلك للوجود.
ثروات هائلة ومغاربة محرومون
تقارير دولية وأممية ووطنية تؤكد جميعها أن المغرب يشغل مرتبة مُتقدِّمة في إنتاج السمك على الصعيد العالمي؛ إذ صنَّفته منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، عام 2017، في المرتبة الـ17 من أصل 25 دولة من أكبر منتجي السمك عبر العالم.
“الفاو” أوضحت أيضاً أن المغرب الذي يملك واجهتين بحريتين؛ هما البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي،بمجال بحري يمتد لنحو 1.2 مليون كيلومتر مربع، يُعد واحداً من ضمن كبرى 3 دول مصدِّرة للأخطبوط، إلى جانب كل من موريتانيا والصين.
وأفادت لجنة الصيد البحري في المياه القارية (حكومية)، بأن إنتاج أسماك المياه القارية برسم موسم الصيد 2017/2016 قُدِّر بـ16 ألف طن بقيمة 160 مليون درهم، محتلاً بذلك المرتبة الأولى إفريقيّاً.
تحذيرات للحكومة
كل المعطيات المذكورة لم تشفع للمغاربة بأن يتمتعوا بخيرات بلادهم السمكية؛ ذلك أن الغلاء حَصَر متوسط استهلاك المواطن المغربي ما بين 10 و12 كيلوغراماً في السنة، ليظل هذا الرقم بعيداً عن متوسط الاستهلاك العالمي من الأسماك والذي يصل إلى 17 كيلوغراماً سنوياً، حسب “الفاو”.
رئيس جامعة حقوق المستهلك، عاد ليؤكد عبر “عربي بوست”، أن مسالة الأثمنة شديدة الحساسية، خاصة في غياب الشفافية، محذراً حكومة سعد الدين العثماني من إعادة سيناريو أحداث عام 1981، المعروفة بـ”انتفاضة الكوميرا”، والتي كان السبب الرئيسي لاندلاع أحداثها الدامية هو ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية، محمِّلاً إياها مسؤولية كل ما قد يقع مستقبلاً.
جامعة غرف الصيد البحري بالمغرب دعت بدورها السلطات العمومية إلى “القيام بمهامها المتمثلة في حماية المستهلك من جشع بعض الوسطاء الذين همُّهم الوحيد هو تحقيق الربح السريع على حساب المواطن”، كما طالبتها بـ”تحريك جميع آليات المراقبة لمحاربة ظاهرة الاحتكار والمضاربة”.
إلا أن خديجة ورغم نيَّتها إعداد طبق “البسطيلة” بفواكه البحر لضيوفها خلال الإفطار، فضَّلت مقاطعته بعدما لم تجد له سبيلاً، أُسَر مغربية أخرى أكثر فقراً وحاجة لم تتمكن من اقتناء كيلو واحد من سمك السردين حتى، وهو المعروف بالمغرب باسم “سمك الفقراء”.