إدارة ترامب تزيد من الضغوط بينما يحاول الاتحاد الأوروبي تجاوز العقوبات الأمريكية على إيران
أن تكون شركة أوروبية ذات صلاتٍ بإيران في عصر العقوبات الأمريكية، فإنَّ ذلك قد يعني التعامل مع تحدياتٍ بشكل يومي، تصل إلى مستوى التحديات الوجودية.
فالموردون حسب صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية يقطعون شحناتهم دون إنذار. وخطوط الهاتف يجري فصلها. بل حتى إصلاح المصاعد يمكن أن يكون محنة، بعد إلغاء عقود الخدمات.
كل ذلك متعلق بالحملة الاستثنائية لإدارة ترامب التي لا تقتصر على خنق التجارة الأمريكية مع إيران، وإنما التجارة الأوروبية أيضاً.
فمنذ أن أعلن الرئيس ترامب، في شهر مايو/أيار، أنَّه سوف يسحب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران، سعت الحكومات الأوروبية للإبقاء على استمرار الاتفاقية من خلال استمرار انخراط شركات أوروبا في التجارة مع إيران. وقد كشفت أوروبا الأسبوع الجاري عن أكثر خطواتها دراماتيكيةً حتى الآن، بإنشائها لنظام تجاري يمكن استخدامه في النهاية للسماح للشركات بتجنب القيود الأمريكية.
لكنَّ النقابات الصناعية والمسؤولين الحكوميين والمحللين وممثلي الشركات التي جرى استهدافها يقولون إنَّ الجهود الأوروبية لا تزال متواضعةً مقارنة بالحماس الذي كانت الولايات المتحدة تضغط به على شركات القارة لوقف التعامل مع طهران.
ذلك أنَّ الولايات المتحدة كانت مستعدةً، في هذا الصراع لتحديد حياة الاتفاقية النووية أو موتها، لتخطي الحدود التي كانت أوروبا حتى الآن مناوئةً لتخطيها. ولم يفُت هذا الأمر على السلطات في إيران، حيث تتزايد الضغوط للتخلي عن الصفقة في مواجهة المحاولات الأمريكية لتقويضها.
وقال مايكل توكوس، الأمين العام لغرفة التجارة الألمانية الإيرانية: «هناك حماس أكبر من طرف أصدقائنا الأمريكيين لخلق المشكلات».
وأضاف توكوس أنَّ هذه المشكلات تنبع من الضغط المباشر الذي يمارسه المسؤولون الأمريكيون على الشركات الأوروبية، فضلاً عن التأثيرات التي تنتجها هذه الضغوط بانتشار الأخبار حول المدى الذي سوف تصل إليه السلطات الأمريكية لإجبار الشركات على إعادة التفكير في خططها.
«حملة الضغط الاقتصادي الأقوى»
وقال توكوس: «هذا ترهيب. إنَّهم يعيشون على الخوف».
وأضاف توكوس، الذي تمثل منظمته الشركات الألمانية التي تقوم بنصيبٍ كبير من تجارتها في إيران، إنَّه يعرف ما لا يقل عن 20 عضواً زارهم مسؤولون أمريكيون بشكلٍ شخصي وحثوهم على إبطاء عملياتهم في إيران.
وقال إنَّ بعض الشركات تلقت عرضاً ودياً حول أهميتهم للعلاقات التجارية الأمريكية الألمانية. وتلقت شركاتٌ أخرى تهديدات بعواقب اقتصادية إذا لم تمتثل لهذه العقوبات.
ووصف توكوس هذا التواصل بأنَّه غير مناسب.
وقال: «لا أعتقد أنَّ مهمة أي دبلوماسي أن يهدد شركة. لا ينبغي لهم أن يعاملوا الشركات في البلد الذي يستضيفهم بهذه الطريقة».
لكن في السفارة الأمريكية في برلين، مقر الجهد الذي يمتد عبر القارة، وإن كان مكثفاً على وجه التحديد في ألمانيا بوصفها القوة الاقتصادية في أوروبا، فإنَّ هذا الأمر يوصف بفخر على أنه «حملة الضغط الاقتصادي الأقوى».
هذه العقوبات الثانوية، كما تُعرف الجهود الأمريكية لتقييد الشركات الأوروبية، ليست أمراً غير عادي. لكن من غير التقليدي للولايات المتحدة فرضها بهذه القوة في أرض أقرب حلفائها.
كان ريتشارد غرينيل، السفير الأمريكي في ألمانيا والحليف المقرب لترامب، قد بدأ فترته في شهر مايو/أيار بتغريدةٍ على موقع تويتر حض فيها «الشركات الألمانية التي تقوم بأعمالٍ مع إيران على تقليص عملياتها فوراً».
وقد أكسبه هذا التعليق انتقاداتٍ لاذعة من المسؤولين والمعلقين الألمان، الذين اتهموه بالتجاوز. لكنَّ غرينيل استمر في حملته، فنشر اجتماعاتٍ مع شركات ألمانية لمناقشة مسألة إيران والاحتفال بمغادرة كل شركة بوسم #sanctionsareworking (العقوبات فعالة).
وقد كان هناك العديد من هذه الإعلانات: إذ كانت شركة Siemens، وشركة Allianz للخدمات المالية، وصانعو السيارات Volkswagen وDaimler من بين الشركات الألمانية الضخمة التي قالت إنَّها سوف تتوقف عن العمل مع إيران.
لكن بقيَ عددٌ كبير من الشركات الأخرى، لا سيما الشركات ذات التركيز الخاص على إيران أو تلك التي ليست لديها أعمال كبيرة مع الولايات المتحدة. وتبدو التكتيكات الأمريكية عدوانية على نحو خاص مع بعض هذه الشركات.
إذ اكتشف فرع بنك Melli المملوك إيرانياً ومقره في ألمانيا في فصل الخريف المدى الذي يمكن أن تصل إليه الولايات المتحدة، عندما تلقى خطاباً من الشركة الألمانية العملاقة في مجال الاتصالات Deutsche Telekom تعلن فيه أنَّ جميع الهواتف والخدمات سوف يجري إلغاؤها.
وقالت شركة الاتصالات للبنك إنَّه لن يكون قادراً على دفع فواتيره لأنَّ العقوبات قد أعاقت الروابط المالية مع إيران. لكنَّ محامي البنك توماس وولفينغ قال إنه يعتقد أنَّ ذلك كان مجرد ذريعة استخدمتها شركة Deutsche Telekom ذات المصالح المالية الضخمة مع الولايات المتحدة بسبب فرعها الأمريكي T-Mobile.
وقال وولفينغ: «من الواضح للغاية أنَّه كان هناك ضغط من الأمريكيين. ليس هناك تفسير آخر لذلك. لن يفعلوا ذلك ما لم يكونوا مضطرين له. لا سيما وأنَّهم شركاء تعاقديون مع عملائنا [في البنك] منذ فترة طويلة دون أي مشكلات».
في حالة بنك Melli، كان وولفينغ قادراً على الحصول على أمر قضائي فوري منع محاولة شركة Deutsche Telekom إلغاء الخدمات. لكنَّه قال إنَّ العملاء الآخرين من أصحاب الشركات الإيرانية العاملة في أوروبا لا يملكون خدمات هاتف أو إنترنت منذ أسبوع أو أكثر. وقال إنَّ عملاءه تعرضوا لإلغاءٍ غير متوقع لعقود الخدمات والإيجار.
وأضاف أنَّ هذه الاضطرابات كانت ذات تأثير مدمر.
وبعد أن ظهرت صراعات بنك Melli إلى الواجهة، غرد السفير الأمريكي قائلاً إنَّ البنك «ينقل الأموال إلى جماعاتٍ إرهابية تعمل لصالح النظام الإيراني»، مضيفاً وسم #thankyouDeutscheTelekom (شكراً Deutsche Telekom).
وينفي البنك هذه الادعاءات.
وقد كان المسؤولون الحكوميون الألمان، على الأقل في العلن، متحفظين في ردودهم على هذه التكتيكات الأمريكية، مفضلين عدم زيادة الضغط على تحالفٍ في حالةٍ رثة بالفعل.
كما كان أولئك المسؤولون حذرين في تقييماتهم حول إمكانية إنقاذ الصفقة الإيرانية.
إذ قال بيتر ألتماير، وزير الشؤون الاقتصادية الألماني، في مقابلةٍ حديثة: «نحاول الحفاظ على [الصفقة] لأنَّنا نعتقد أنه لا يزال من الممكن اعتبارها تحسناً. وفي الوقت ذاته، لا أحد يعرف إذا ما كانت الصفقة سوف تستمر في العمل بشكل ملائم في ظل نظام العقوبات الأمريكي».
خطة العمل الشاملة المشتركة!
كانت اتفاقية إيران لعام 2015، التي كانت تعرف سابقاً باسم خطة العمل الشاملة المشتركة، اتفاقية تاريخية بين الجمهورية الإسلامية وقوى العالم العظمى، بما فيها الولايات المتحدة. وكانت فكرتها الأساسية إخراج إيران من مسارٍ كان المسؤولون الاستخباراتيون الغربيون يخشون أنه كان سوف ينتهي إلى سلاح نووي، مقابل إنهاء هذه العقوبات المعيقة.
لكن عندما اختار ترامب، وهو أحد المنتقدين الشرسين لهذه الاتفاقية، خروج الولايات المتحدة منها في العالم الماضي، وقع العبء على أوروبا لجعل الأمر يستحق بقاء إيران فيها.
ولا تزال الحكومة الإيرانية رسمياً ملتزمة بالصفقة النووية، وقد استمر الرئيس حسن روحاني في الدفع من أجل علاقات أفضل مع أوروبا. لكنَّ صبر حكومة روحاني أوشك على النفاد أيضاً تجاه ما تراه عجزاً لدى الكتلة الأوروبية على الوقوف أمام الولايات المتحدة وحماية العلاقات التجارية مع إيران.
وكان الهدف من إعلان الأسبوع الماضي عن منصة أوروبية لإدارة التعاملات المالية خارج النظام الحالي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة طمأنة إيران بالتزام القارة.
ناضل القادة الأوروبيون لإيجاد طريقة لتعزيز التجارة المتعثرة مع إيران، نظراً لمخاوف الدول الصغيرة من أنهم لو اشتركوا في أي مشروع فسوف يجدون أنفسهم في مرمى نيران العقوبات الأمريكية.
وقد وافقت بريطانيا وفرنسا وألمانيا، الذين كانوا أيضاً من الموقعين على هذه الصفقة النووية، على تقاسم المسؤولية لتسجيل شركة تهدف إلى تقويض الإجراءات الأمريكية. والهدف من ذلك إتاحة مقايضة البضائع والخدمات بين أوروبا وإيران دون إرسال أموال بين الطرفين، وهو ما يخاطر بتوريط البنوك في العقوبات الأمريكية.
وسوف يدير مسؤول ألماني هذه الشركة المسجلة في فرنسا وتعرف باسم Instrument in Support of Trade Exchange (أداة دعم التبادلات التجارية). وسوف تكون بريطانيا وفرنسا وألمانيا من حملة الأسهم في هذا المشروع، الذي يجري بمباركة الاتحاد الأوروبي، أحد الموقعين على الصفقة الإيرانية.
واعترف المسؤولون المشتركون في هذا التخطيط الأوروبي بأنَّ أثر هذه الشركة، المعروفة أيضاً باسم «آلية الغرض الخاص»، ربما يكون ضئيلاً في البداية، وأنَّها وحدها من المرجح ألا تكون عاملاً حاسماً في قرار إيران حول ما إذا كانت ستواصل الالتزام بالصفقة.
تجارة الغذاء والدواء
سوف تركز الشركة في البداية على تجارة الغذاء والدواء، وهما غير خاضعين للعقوبات الأمريكية. لكنَّ خبراء يقولون بأنَّ هذه القناة التجارية من شأنها أن تكون أول صدع في هيمنة الولايات المتحدة على النظام المالي العالمي، التي أدت على مدى عقود إلى تعظيم قدرة الولايات المتحدة على فرض عقوبات على أي شخص يريد نقل دولارات في جميع أنحاء العالم.
ولا يبدو أنَّ إدارة ترامب تتخوف من هذا الترتيب على نحو خاص. إذ قالت السفارة الأمريكية في برلين في بيان لها إنها لا تتوقع «أن تؤثر هذه المنصة بأية طريقة» على الجهود الرامية إلى فرض عقوبات ثانوية.
وقد رحبت إيران بهذا الإعلان الأوروبي، في حين أشارت إلى أنه ليس سوى «الحزمة الأولى من الالتزامات تجاه إيران التي ينبغي للأوروبيين الوفاء بها». ونقلت الإذاعة الرسمية الإيرانية أيضاً قول نائب وزير الخارجية عباس آراغشي إنَّ نظام الدفع هذا لن «يلبي احتياجات إيران بشكل كامل»، إلا عندما تكون مفتوحة للشركات والدول غير الأوروبية.
وقد طالب المحافظون الإيرانيون المتشددون الذين يعارض كثير منهم العلاقات مع الغرب روحاني بالتخلي عن الاتفاقية النووية. إذ يقولون إنَّ أوروبا عاجزة في مواجهة الضغوط الأمريكية، وإيران تهدر وقتها في المفاوضات.
ونقلت وسائل الإعلام الحكومية الشهر الماضي عن آية الله أحمد جنتي، رئيس مجلس خبراء القيادة الإيراني القوي: «تخيل البعض أنَّ بإمكانهم الاعتماد على الأوروبيين عندما انسحبت الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة».
وقال جنتي: «ومع ذلك، فالأوروبيون متخاذلون ولن يفعلوا أي شيء في مصلحتنا. الأوروبيون أسوأ من الأمريكيين».
وقال إسفنديار باتمانغيليدج، مؤسس منتدى الأعمال الأوروبي الإيراني، الذي يروج للروابط التجارية [بين الطرفين]: «السؤال بالنسبة للقيادة الإيرانية لا يتعلق بشكل كبير حول ما إذا كانت أوروبا ترغب في الإبقاء على خطة العمل الشاملة المشتركة، وإنما إذا ما كانت لدى أوروبا القدرة على فعل ذلك».
توترات أخرى بين أوروبا وإيران
كانت هناك توترات أخرى بين أوروبا وإيران خلال الشهور الأخيرة، بما في ذلك تلك المتعلقة باختبارات الصواريخ الباليستية لطهران، وأنشطتها التجسسية المزعومة على الأراضي الأوروبية.
وكان الاتحاد الأوروبي قد أعلن الشهر الماضي عن عقوبات تستهدف وحدةً في وزارة الاستخبارات الإيرانية بسبب مؤامرة مزعومة لتنفيذ اغتيالات في عواصم أوروبية. وقد حظيت هذه الخطوة بإشادة المسؤولين الأمريكيين، الذين حثوا أوروبا على اتخاذ موقف أكثر تشدداً ضد حكومة تعتبرها واشنطن دولة راعية للإرهاب.
وقال إيلي جيرانمايا، الزميل بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إنَّ أوروبا حريصة على أن تظهر للولايات المتحدة أنَّ بإمكانها أن تكون حازمة ضد إيران في قضايا بعينها «لكنَّ الأوروبيين لا يتفقون مع الأمريكيين في أنَّ حل المشكلة يتمثل في فرض العقوبات في كل قضية».
وقد أضرت هذه العقوبات الأمريكية بالفعل بالاقتصاد الإيراني بشكل كبير، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار وإعاقة الواردات. ولو تدهورت الأوضاع أكثر من ذلك، فمن الممكن أن تتغير الحسابات الأساسية لإيران.
وقال جيرانمايا: «ثمة إجماع [في إيران] على أنَّ الأبعاد الأمنية والسياسية للصفقة مهمة بما يكفي، وتخدم مصالح الأمن القومي الإيرانية. لكن لو كانت الضربة الاقتصادية كبيرة للغاية.. فربما لا يكون هذا هو نفس موقف إيران بعد ستة أشهر من الآن».