إبداع النكسة
شكلت فترة الستينيات بشكل عام تربة صالحة لازدهار الإبداع، لما اشتملت عليه من نهضة ثقافية وصناعية كانا بمثابة الجناحين اللذين حلق بهما المشروع الناصري في فضاء المنطقة كلها، غير أن الإبداع ابن مخلص للدراما، لذا فقد شكلت النكسة منبعا خصبا له، راح الأدباء ينهلون من معينه بلا حدود، فالنكسة لم تكن انهيارا مدويا لرمز عبد الناصر، ولا لمشروعه السياسي فقط، بل انهيارا مدمرا لأحلام المبدعين الخاصة أيضا، فجميعهم أبناء هذا المشروع الذي تم دحضه بلا رحمة أو سابق انذار، لذا تركزت رؤيتهم علي تأثير هذا الحدث الضخم علي الشخصية المصرية، الذين هم أنفسهم جزء منها، وكأنهم يعبرون عن تأثيرها عليهم بشكل خفي، رصدوا السلبيات، والتحول النفسي، ولم يحاولوا اخفاء الحدث، ربما لأنه كان أضخم من الخفاء، وأضخم من قدرتهم عليه، وكان من أهم سمات الأدب في تلك المرحلة حالتي التشظي والاغتراب اللتين ضربتا الشخصية المصرية في عمقها غائر البُعد، لكن أغلب المبدعين مع ذلك حاولوا أيضا تصوير الأمر وكأنه سحابة صيف سرعان ما ستمر، وكانت الأغاني هي الأكثر انتشارا، وقدرة علي التأثير، ولنا في أغنية “عدي النهار” للأبنودي مثال بارز.
وكما تباري المبدعون في التهليل للمشروع الناصري، تباروا أيضا في تناول النكسة، ربما لاحتواء الخلل النفسي الذي أصاب المجتمع، وربما للتبرير لأنفسهم قبل التبرير للناس، وربما لاستعادة توازنهم الذي سقط مع السقوط العظيم حينها، إضافة إلي السمة الغالبة للأدب العربي في كونه أدب مناسبات، وربما لأن الفن ابن شرعي للدراما، لا يكل من البحث عن الحزن لإحداث التأثير الأكبر في المتلقي، لكن رغم اختلاف الأسباب فالذي حدث أن كثيرا من المبدعين شاركوا بإبداعهم في تأريخ تلك الفترة، وإن اقتصروا علي إبراز جانب التأثير النفسي للنكسة علي الشخصية المصرية، بأكثر مما تناولوا حدث الحرب ذاته، وعموما فإن الأدب العربي شحيح جدا في رصد الحرب، بقدر ما هو غني جدا في رصد المشاعر التي تخلفها.
ومن أهم الأعمال الإبداعية التي رصدت تلك الفترة “ثرثرة فوق النيل، وميرامار، والحب تحت المطر” لنجيب محفوظ، و”بحيرة المساء” لإبراهيم أصلان، وديوان “التعليق علي ما حدث” لأمل دنقل، وغيرها الكثير من الأعمال التي رصدت تلك الفترة، وإن ظهر الكثير منها أيضا في فترة حكم السادات كمعول أساس لضرب التجربة الناصرية، وفي هذا السياق أذكر واحدا من أهم الأفلام المصرية التي جسدت حالتي التشظي والغربة للشخصية المصرية آنذاك، اسمه “الظلال في الجانب الآخر” لمجموعة كبيرة من الفنانين منهم محمود يس ونجلاء فتحي.
ربما كنت أتمني لو أنني عشت تلك الفترة، تشظيت مع انفجارها، واغتربت نتيجة لها، ربما لم أكن لأري دفة السياسة الدافعة للأدب والفن بشكل عام باتجاه التبرير والاحتواء ومداراة الخيبة، لكنني لم أكن لأصدق شيئا وقتها سوي طعم المر الذي استقر في الحلق، ولم أكن لأري شيئا سوي الحزن الذي تسرسب إلي عمق الروح حتى لفها بردائه الأسود، ولم أكن لأتجاوب إلا مع كل ما يقدمهما لي بصدق كامل، وقادر علي تعرية الذات.
وبكل أسف لم تنجح الأعمال الأدبية في التأريخ أدبيا لانتصار أكتوبر، أو لتفاعل الجماهير معه، بل إنني لن أكون مبالغا إن قلت إنها لم تنجح حتى علي المستوي الأدبي الفني، ففي الوقت الذي اختمر فيه حدث النصر لدي الأدباء كان السادات قد فجَّر قنبلة الانفتاح الاقتصادي، وبدأ في الانقلاب الفج والواضح علي المشروع الناصري، ومن قبله كان هناك ثورة التصحيح التي أطاح فيها برجالات دولة عبد الناصر، ومن بعدها جاءت انتفاضة الخبز، ثم معاهدة كامب ديفيد وما تبعها من حملة الاعتقالات الواسعة لرموز الثقافة والإعلام والسياسة في ذلك الوقت، ولم يكن المبدعون فقط هم أبناء المشروع الناصري، بل الثقافة المصرية كلها، لذا ناصبت الحركة الثقافية العداء لكل ما هو منتمي للسادات، وكان من الطبيعي أن تُحسب الأعمال الأدبية المنتصرة فنيا لنصر أكتوبر إلي تبعيتها له، وبالتالي ناصبها العداء غالبية النقاد والمبدعون والإعلام وفئات كبيرة من المجتمع، خصوصا الفئات اليسارية المثقفة، فسقطت وسقط مبدعوها معها.
لم أر حزنا تغلغل في روح الإنسان المصري، ولا امتد معه في الزمن، مثل حدث النكسة، ربما هذا ما يفسر تناولي له في روايتي “حقيبة الرسول” التي حاولت فيها قتل الأب علي كافة مستوياته، الغيبي بانتهاء عصر النبوة، والسياسي بانهيار عبد الناصر مع النكسة، والاجتماعي بموت والد البطل بعد فشلة في فرض وصايته عليه، ومحاولته درء الموت عنه، وانتصرت للإنسان خالصا بذاته ولذاته، من البدء إلي المنتهي، مرورا بحق تقرير المصير.