أول عمل تلفزيوني للنجم ريتشارد جير يتناول ترامب وكوابيس السياسة الأمريكية
بعيداً عن السينما والإنتاج الأمريكي يظهر ريتشارد جير للمرة الأولى في عمل تلفزيوني بعنوان «ماذر فاذر صن» (الأم والأب والابن) وهو مسلسل درامي من 8 حلقات مدة الحلقة ساعة كاملة إنتاج «بي بي سي» البريطانية 2019 .
وقد تكون التوقعات غير إيجابية في البداية ونظن أنه سيكون الأضعف أداءً وسط الممثلين الإنكليز الذين لا يُعلى عليهم في الدراما، فهم وإن كان أحدهم غير مشهور ويظهر في دور ثانوي صغير جداً فهو قادر على إثارة الدهشة والإعجاب بقدرته التمثيلية ومهارته في الأداء، لكن مع البدء في المشاهدة نرى أن النجم الأمريكي يتفوق عليهم أحياناً في بعض المشاهد، وأنه ليس موجوداً في هذا العمل من أجل إطلالته السينمائية وما يتمتع به من وسامة وشهرة وكاريزما، وليس مطلوباً منه أن يجسد شخصية تتحدث بلكنة بريطانية وأن يتبارى مع الآخرين في ذلك، بل كان مطلوباً منه أن يكون أمريكياً إلى أقصى حد، وأن يعكس الروح الأمريكية والقوة والجبروت والقدرة على التأثير والنفوذ اللانهائي والجاذبية التي لا تقاوم وتشكل تهديداً مخيفاً في الوقت نفسه، حيث يجسد شخصية «ماكس فينش» بطل المسلسل وأحد أباطرة الصحافة في العالم والمالك الأمريكي لأهم الصحف البريطانية، وهو الأب في عنوان المسلسل (الأم والأب والابن) أما الأم فهي «كاثرين» مطلقته البريطانية والابن هو «كيدين» البريطاني أيضاً.
والشخص الأساسي في الدراما هو «ماكس فينش» الذي يؤثر في الشخصيات الأخرى وبه ترتبط جميع الأحداث، ويبدو هذا الأمريكي كأنه الفاعل الوحيد المتحكم في كافة الأمور ويبدو كل ما يصدر عن الآخرين مجرد ردود أفعال تأتي كمحاولات لمقاومته والإفلات من سطوته أو الرغبة في كسب وده والحصول على دعمه ومساندته حتى ممن يفوقونه شراً، وتأتي مشاركة «ريتشارد غير» في هذا العمل متسقة مع مواقفه الأخلاقية والسياسية المعلنة، فهو كثيراً ما يعبر عن شعوره بالعار.
ويقول إن: «من المهين أن يحكم بلاده ويمثلها شخص مثل ترامب»، فالمسلسل يقدم شخصية شديدة الترامبية هي أنجيلا هوارد سيدة الأعمال التي تخوض معركة انتخابية من أجل أن تصبح رئيسة وزراء بريطانيا، هذه الشخصية وإن كانت امرأة فإن المشاهد لا يرى فيها سوى «ترامب» بهيئته وتكوينه الجسدي وملامحه ولون شعره، حيث قامت الممثلة «سارة لانكشير» بتقمص شخصيته واستحضار روحه وتقليد مشيته حتى ملابسها تذكر بمعطف ترامب الطويل، لكنها اعتمدت على أداء أكثر رصانة في حديثها وهي تطلق أفكاره الفاشية نفسها وتردد عباراته في بعض الأحيان، لكن الأمر ليس كاريكاتورياً أو مضحكاً ولا مجال حتى للابتسام في هذه الدراما الثقيلة، بل كان مخيفاً ومزعجاً وكانت مشاهدها وأحاديثها من ناحية الأداء والإخراج أقرب إلى مشاهد الرعب.
كما أن خطاباتها أثناء الحملات الانتخابية ومشهد إعلان فوزها يجدد المواجع ويذكرنا بتلك الليلة الظلماء التي ودعنا فيها الأمل لحظة فوز ترامب، وفي مقابل هذه الشخصية الترامبية أتى كاتب المسلسل في المقابل بشخص يجتمع فيه كل ما يكرهه ترامب ويمقته ويرفض وجوده، هذا الشخص هو رئيس وزراء بريطانيا الحالي الذي يخسر في الانتخابات ويفشل في كسب ثقة الناخبين لفترة جديدة «جاهان زكاري» المسلم ذو البشرة السمراء الديمقراطي الذي لا يفقد إيمانه بالحرية مها دفع من أثمان باهظة، ويتنافس كل من «هوارد» و «زكاري» أيضاً على صداقة «ماكس فينش» الذي يبدو كصاحب الكلمة الأخيرة التي تقرر وتختار من سيكون في مقر الحكومة، فلا تبدو الصحافة في هذا المسلسل كسلطة رابعة بل كسلطة أولى أقوى من بقية السلطات الدستورية الثلاث، وتستطيع بقوتها أن تحشد الرأي العام وتسقط حكومات وتسهم في فوز أخرى، ويمكنها التأثير على القوى السياسية والاجتماعية، ولا يكتفي المسلسل بترديد مقولة «الكلمات تقتل» وإنما يرينا الدماء التي تسيل بفعل الكلمات وعناوين الصحف.
في تشابكات وتقاطعات ما بين الخاص/العائلي والعام/السياسي تسير الأحداث بتطورها الدرامي المعقد، وتتعدد الصراعات وتتداخل سواء في الأسرة أو الصحيفة أو الدولة، أما ظلال «مأساة أوديب» التي تنعكس على الأحداث والتي نفذها المخرج ببراعة شديدة فهي من أجمل ما نشاهده في هذا العمل، والتي تخايلنا في ما يشبه قتل الأب والاتصال الجسدي بالأم، وفي تدمير «كيدين» الابن لجسده عمداً ليوقف نفسه عن تدمير الآخرين، وفي أن بإمكان مأساة عائلية أن تــأتي بالخراب الذي يعم ويشمل الجميع، وفي أن بإمكان فرد واحد فقط تدمير الحــضارات والأمم والحياة بأكملها.