أوروبا تستعين بخدمات الشرطة السرية السودانية لحماية حدودها رغم اتهامها بمجازر حرب
“في بعض الأحيان، أشعر بأنَّ هذه هي الحدود الجنوبية لأوروبا”، هذا ما قاله الملازم في الشرطة السودانية السرية سامح عمر بينما كان يقود دورية أمنية قرب حدود بلاده الشرقية.
طريق غير معلّمة، طولها 2000 ميل )3218.7 كيلومتر تقريباً)، يسلكها سنوياً آلاف الأفارقة القادمين من شرق القارة، في محاولةٍ للوصول إلى البحر المتوسط، ومن ثم السفر إلى أوروبا.
تقدم الملازم عمَر الدورية، المؤلفة من عربتين، ببطء شديد عبر الصحراء المحفرَّة، مصطحباً معه مراسل صحيفة The New York Times. مر بهيكل بقرة جف تحت الشمس، وأكمل مسيرته بحثاً عن أي حركة غير اعتيادية.
هو ليس ضابط حدود عادياً، فهو يعمل لدى الشرطة السودانية السرية التي تُشكِّل مصدر خوف بالنسبة للمواطنين، والتي اتُّهم قادتها بارتكاب جرائم حرب، ومؤخراً اتُّهم ضباطها بتعذيب المهاجرين.
تُساعد دورياتُه على طول الحدود مع إريتريا السودان في اتخاذ إجراءات صارمة إزاء أحد أكثر المسارات ازدحاماً في طريق الهجرة إلى أوروبا. وبصورة غير مباشرة، يعمل عمر أيضاً لأجل مصالح الاتحاد الأوروبي.
اتهامات للأوربيين
قبل 3 أعوام، عندما تدفق مدٌ من المهاجرين يُعَد من بين الأكبر في التاريخ إلى أوروبا، تَفاعل كثيرٌ من القادة هناك بترحيب ومثالية نبيلة. لكن مع إشعال أزمة الهجرة للشعبوية الغاضبة والثوران السياسي، بدأ الاتحاد الأوروبي بهدوءٍ يتورط في انتهاكاتٍ لوقف تدفق البشر، عن طريقِ عملية أدارها عن بعدٍ، للسيطرة على حدود بلدان لديها سجلات مثيرة للشك في مجال حقوق الإنسان.
من الناحية العملية، يؤتي هذا النهج ثماره: انخفض عدد المهاجرين المتوافدين على أوروبا بأكثر من النصف منذ عام 2016، لكن العديد من المدافعين عن الهجرة يقولون إنَّ التكلفة الأخلاقية مرتفعة.
ولغلق الطريق البحري المؤدي إلى اليونان، يَدفَع الاتحادُ الأوروبي مليارات اليوروهات إلى الحكومة التركية، التي ينتقد سياساتها الديمقراطية. وفي ليبيا، تُتَّهم إيطاليا بدفع رشى لبعض أفراد الميليشيات، الذين لطالما تربَّحوا من تجارة تهريب البشر، وكثيرٌ منهم متهمون أيضاً بارتكاب جرائم حرب.
الاتفاق يخدم مصالح الطرفين
في السودان، الذي يعبره المهاجرون للوصول إلى ليبيا، تُعَد العلاقة أكثر غموضاً، لكنها قائمة بسبب الحاجة المتبادلة: الأوروبيون يرغبون في إغلاق الحدود، والسودانيون يريدون إنهاء سنواتٍ من العزلة مع الغرب.
ولا تزال أوروبا تفرض حظراً للأسلحة على السودان، والعديد من قادة السودان منبوذون دولياً ومتهمون بارتكاب جرائم حرب في دارفور.
لكنَّ العلاقة تزداد عمقاً بوضوح. مبادرة حديثة تُعرَف باسم عملية الخرطوم (تكريماً للعاصمة السودانية) أصبحت منصةً لعقد ما لا يقل عن 20 مؤتمراً دولياً بشأن الهجرة بين مسؤولي الاتحاد الأوروبي ونظرائهم في العديد من البلدان الإفريقية، من ضمنها السودان. ووافق الاتحاد الإفريقي أيضاً على أن تُصبِح الخرطوم مركزاً رئيسياً لجهود التعاون في مكافحة التهريب.
وفي حين لم تُمنَح أموال الأوروبيين مباشرةً لأي جهاز تابع للحكومة السودانية، ضخَّ الاتحاد 106 ملايين يورو (أو نحو 131 مليون دولار) في البلد عبر مؤسسات خيرية مستقلة ووكالات إغاثة تعمل أساساً على برامج الغذاء، والصحة والمرافق الصحية للمهاجرين، وبرامج التدريب للمسؤولين المحليين.
قالت كاثرين راي، الناطقة باسم الاتحاد الأوروبي: “بينما ننخرط في بعض المجالات من أجل الشعب السوداني، فإنَّه لا يزال لدينا نظام عقوبات قائم”، في إشارة لحظرٍ مفروضٍ على توريد الأسلحة ومواد مرتبطة بتصنيعها.
“نشجّع السودان على إدارة الهجرة بأمان”
وأضافت راي: “لا نُشجِّع السودان على كبح الهجرة؛ بل على إدارة الهجرة بطريقة آمنة وتحفظ الكرامة”.
وقال مدير إحدى المجموعات غير الحكومية التي تَتَلقى التمويل الأوروبي، أحمد سالم، إنَّ الاتحاد كان مدفوعاً بالمصلحة الشخصية ورغبة في تحسين الوضع بالسودان.
وأضاف سالم، الذي يرأس المركز الأوروبي الإفريقي للبحوث والتدريب والتطوير: “لا يرغبون في أن يعبر المهاجرون البحر المتوسط إلى أوروبا”.
لكنَّه قال إنَّ الأموال التي تحصل عليها مؤسسته تَعني خدمات أفضل لطالبي اللجوء في السودان، وأضاف: “عليك الاعتراف بأنَّ الدول الأوروبية تُريد فعل شيء ما لحماية المهاجرين هنا”.
تواطؤ في إصلاح سمعة “جهاز سياسي مجرم”
يجادل المنتقدون بأنَّ العلاقةَ الناشئةَ تَعني أن القادةَ الأوروبيين مُعتمدون ضمنياً ومتواطئون في إعادة إصلاح سمعة جهاز أمني سوداني اتهمت الأمم المتحدة قادته بارتكاب جرائم حرب.
وقال سليمان بالدو، الذي أعدَّ ورقة بحثية عن الشراكة بين أوروبا والسودان بشأن الهجرة: “لا يوجد تبادلٌ مباشرٌ للأموال، لكن الاتحاد الأوروبي أساساً يُضفي الشرعية على قوةٍ متعسفةٍ”.
ينتمي الملازم عمر والعديد من أعضاء دوريته، الموجودون على الحدود عند منطقة أبو جمال بالأصل، إلى جناح ضمن قوات الأمن السودانية يرأسه صلاح عبد الله قوش، أحد المسؤولين السودانيين العديدين المتهمين بتدبير هجمات على المدنيين بدارفور.
الشرطة غير موجودة في كل مكان وتساعدها قوات الدعم السريع
في مكانٍ آخر، تحمي الحدود قوات الدعم السريع، أحد أفرع الجيش السوداني التي تشكَّلت من ميليشيات الجنجويد. وقال الملازم عمر إنّ تركيز المجموعةِ لا ينصب على مكافحة التهريب؛ بل اعتقال المهرّبين. فربع مهربي البشر في شهري يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط من هذا العام (2018) على الحدود الإريترية، تم اعتقالهم من قبل قوات الدعم السريع.
لدى المسؤولين الأوروبيين اتصال مباشر فقط مع شرطة مكافحة الهجرة السودانية، وليس مع قوات الدعم السريع، أو قوات الأمن التي يعمل لصالحها الملازم عمر، والمعروفة باسم جهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني، لكن العمليات التي يقومون بها ليست منفصلة كلياً.
قال اللواء عوض النيل ضحية، رئيس دائرة الهجرة في إدارة الهجرة والجوازات التابعة للشرطة السودانية، إنَّ مركز مكافحة التهريب المقرر إنشاؤه في الخرطوم -والذي سيعمل به بشكلٍ مشتركٍ ضباط شرطة من السودان ومن عدة بلدان أوروبية كبريطانيا وفرنسا وإيطاليا- سيعتمد جزئياً على المعلومات التي يرصدها جهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني.
وأضاف أنَّ الشرطة النظامية أيضاً تحصل على دعمٍ من حين لآخر من قوات الدعم السريع في عمليات مكافحة التهريب بالمناطق الحدودية.
وقال اللواء ضحية: “هم حاضرون هناك ويمكنهم المساعدة، الشرطة ليست موجودة في كل مكان، ولا يمكننا تغطية كل مكان”.
إلا أنَّ الشرطة السودانية تعمل في مكان غير متوقع: أوروبا.
ولكنها تتخذ قرارات الترحيل من أوروبا
وقال اللواء ضحية إنَّه في محاولة لردع المهاجرين المستقبليين، سمحت 3 بلدان أوروبية على الأقل -هي بلجيكا وفرنسا وإيطاليا- بدخول ضباط الشرطة السودانية أراضيها لتسريع ترحيل طالبي اللجوء السودانيين لديها.
عادة ما يتمثَّل دورهم الرئيسي ببساطة في تحديد المواطنين السودانيين، لكن سُمِح لهم باستجواب بعض المرشحين للترحيل، دون الخضوع لرقابة مسؤولين أوروبيين يتمتعون بالمهارات اللغوية لفهم ما يُقال.
رُحِّل أكثر من 50 سودانياً من طالبي اللجوء الموجودين في أوروبا على مدار الأشهر الـ18 الماضية من بلجيكا وفرنسا وإيطاليا. وأجرت صحيفة The New York Times الأميركية مقابلات مع 7 منهم في أثناء زيارة إلى السودان.
“قلتُ للشرطة الفرنسية: سيقتولننا، لكنَّهم لم يفهموا ذلك”
قال 4 منهم إنَّهم تعرضوا للتعذيب عند عودتهم إلى السودان، وهي مزاعم نفاها اللواء ضحية. كان أحدهم معارِضاً سياسياً في دارفور، رُحِّل في نهاية عام 2017 من فرنسا إلى الخرطوم، حيث اعتقله عملاء جهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني فور وصوله.
على مدار الأيام العشرة التي تلت اعتقاله، قال إنَّه تعرض للصعق بالكهرباء واللكم والضرب باستخدام قضبان معدنية. وفي مرحلةٍ ما فَقَدَ المعارض، الذي طلب عدم ذكر اسمه خشيةً على حياته، الوعي وكان يجب نقله إلى المشفى، ثُمَّ أُفرِج عنه لاحقاً في صورة إطلاق سراح مشروط.
قال المُعارِض إنَّه قبل ترحيله من فرنسا هدَّده ضباط الشرطة السودانيون، في حين كان ضباط فرنسيون يقفون على مقربة، مضيفاً: “قلتُ للشرطة الفرنسية: (سيقتولننا)، لكنَّهم لم يفهموا ذلك”.
يُجادل مسؤولون أوروبيون بأنَّ جعل الخرطوم قاعدة للتعاون في مجابهة تهريب البشر، من شأنه فقط تحسين أداء قوات الأمن السودانية. ومن المقرر أنَّ يُفتتح المركز الإقليمي للعمليات المشتركة لمكافحة الاتجار بالبشر في الخرطوم هذا العام (2018)، وسيُمكِّن البعثات من عدة بلدان أوروبية وإفريقية من تشارُك المعلومات الاستخباراتية وتنسيق العلميات ضد المهربين في شمال إفريقيا.
خطأ سوداني أودى بحياة متهم بريء في سجون إيطاليا
لكن المخاطر المحتملة جلية بالنظر إلى الشراكات السابقة، ففي عام 2016، أعلنت الشرطتانالبريطانية والإيطالية، اللتان نسبتا الفضل إلى عملية مشتركة قامتا بها مع شركائهما السودانيين، اعتقال “واحد من أكثر مهربي البشر المطلوبين في العالم”. وقالوا إنَّه كان إريترياً يُدعى ميريد مدهاني يهديقو، اعتُقِل في السودان وجرى تسليمه لإيطاليا.
يعترف دبلوماسيون غربيون سراً الآن بأنَّ تلك القضية كانت إحدى حالات الخطأ بالهوية؛ إذ اتضح أنَّ السجين يُدعى مدهاني تسفارماريام بيرهي، وهو لاجئ إريتري يحمل الاسم الأول نفسه للمهرب الحقيقي. ولا يزال ميريد طليقاً.
وحتى اللواء ضحية يعترف الآن بأنَّ السودان سلَّم الرجل الخطأ، وإن كان الرجل، كما يقول، اعترف في أثناء احتجازه لدى السلطات السودانية بالتورط في التهريب.
وقال اللواء ضحية: “هناك شخصان في واقع الأمر، شخصان يحملان الاسم نفسه”.
رغم ذلك، لا يزال بيرهي يُحاكَم في إيطاليا على أنَّه ميريد، ولكونه مهرباً.
ومهربون: أجهزة الأمن متورطة معنا
وبخلاف ذلك، لطالما اتُّهمت أجهزة الأمن السودانية بالتربُّح من تجارة تهريب البشر. وإثر ضغطٍ أوروبي، تبنَّى البرلمان السوداني مجموعةً من تشريعات مكافحة التهريب في عام 2014، وقد أدَّت القوانين الجديدة منذ ذلك الحين إلى ملاحقة بعض المسؤولين قضائياً على خلفية تورطهم المزعوم في تجارة التهريب.
لكن وفقاً لمهرِّبين، فإنَّ أجهزة الأمن تظل متورطة من كثب في تجارة الهجرة غير القانونية، ويتلقَّى مسؤولو مكافحة الهجرة السودانية وقوات الدعم السريع على حدٍ سواء، جزءاً من أرباح التهريب على معظم الرحلات المتجهة إلى جنوب ليبيا.
واتهامات بابتزاز الأمن المهاجرين لإطلاق سراحهم مقابل فدية
وقد زعم قائد قوات الدعم السريع، العميد محمد حمدان دقلو، سابقاً، أنَّ قواته تلعب دوراً رئيسياً في منع الوصول إلى ليبيا. لكنَّ كل المهربين -وقد أجريتُ معهم مقابلات منفصلة- قالوا على حدة إنَّ قوات الدعم السريع عادةً ما تكون المُنظِّم الرئيسي للرحلات؛ إذ تمدُّهم غالباً بمركباتٍ مموَّهة لنقل المهاجرين عبر الصحراء.
ووفقاً لما قاله كُل مهرِّب على حدة، يتعرَّض العديد من المهاجرين بعد تسليمهم إلى الميليشيات الليبية في مدينتي الكفرة وسبها (جنوب ليبيا) لتعذيبٍ ممنهج ويُحتَجزون للحصول على فدية في مقابل إطلاق سراحهم، وهي فدية يجري تقاسمها لاحقاً مع قوات الدعم السريع. وقد اتَّهم نشطاء حقوق إنسان المسؤولين السودانيين مسبقاً بالتواطؤ في جرائم الاتجار بالبشر. وفي تقريرٍ يعود لعام 2014، قالت منظمة هيومان رايتس ووتش إنَّ مسؤولين كباراً بالشرطة السودانية تواطأوا في عمليات تهريب لإريتريين.
وقال صحفي بريطاني، ألقت قوات الدعم السريع القبض عليه بمدينة دارفور في عام 2016، إنَّ مُحتجِزيه أخبروه بأنَّهم متورطون في عمليات تهريبٍ للبشر إلى ليبيا. وقال الصحفي فيل كوكس، وهو صانع أفلام حر يعمل لصالح القناة البريطانية الرابعة: “سألتُهم تحديداً كيف يتم هذا. وقالوا لي: نحن نتأكد من أنَّ الطرق مفتوحة، ونتحدث مع قادة المنطقة التالية”.
وقال اللواء ضحية إنَّ المشكلة لا تتعدَّى وجود بعض “النماذج الفاسدة.. السودان يظل شريكاً فعَّالاً لأوروبا في معركتها ضد الهجرة غير القانونية”، مضيفاً: “لسنا مختلفين كثيراً عن معاييركم”.
وفي أوروبا، تتعالى أصوات برلمانية مطالِبةً بإعادة التفكير في التعاون مع السودان. ويعتبر مراقبون أن “وحشية النظام تجاه اللاجئين ازدادت بعد التعاون مع الاتحاد الأوروبي”. ويقول ناشط في إحدى المنظمات: “تشعر الحكومة بأنه مخول لها للقيام بكل ما تريد. يعتقدون أنهم يستطيعون الإفلات من هذه الانتهاكات، ويعتبرونها إيماءات حُسن نية للاتحاد الأوروبي لإظهار أنهم يتحكمون في تدفق المهاجرين”.
بينما حذَّر تحقيق برلماني بريطاني من أن “سمعة الاتحاد الأوروبي الراسخة منذ أمد، كحامي حقوق الإنسان، تواجه خطر التضحية على مذبح الهجرة”.