أورفا وصراع ثقافتين “نمرود وإبراهيم”
كثيراً ما يُعتَقَد أن ثقافة النبوة مركزها شبه الجزيرة العربية، وذلك وفق دارسي علم الأديان والمتأثرين بالدين الاسلامي بشكل كبير والذين يسعون إلى مركزة هذه المنطقة على حساب المدن الأخرى التي كان بها دور كبير في ظهور الأنبياء على مرّ التاريخ. فالحقيقة التاريخية تشير إلى أن أورفا والمناطق المجاورة لها قامت بتعديل المؤسسات العقائدية السومرية والنيوليتية وبإطراء الإصلاح عليها، لتنشرها في كل الجهات (بما في ذلك شبه الجزيرة العربية) اعتباراً من أعوام الألف الثاني قبل الميلاد.
هذا هو معنى توصيف “أورفا موطن الأنبياء”، والذي هو دلالة على إنجازِ النهضةِ هناك في ذاك العصر. فبدلاً من عبادةِ العِباد (الملوك-الآلهة) والأصنام، يتم الولاء لإلهٍ مجرَّدٍ أكثرَ حريةً ومساواةً نسبةً إلى تلك الحقبة. هذا ما يُشكلُ خطوةً تقدميةً تاريخيةً عظيمة، وبدايةً لعصرٍ جديد.
عملية البحث التي كان يعيشها سيدنا إبراهيم عن التقاليد الثقافية الجديدة تجاه تقاليد السلطة والعبودية التي كانت راسخة ضمن المجتمع، تمتلك أهمية قصوى للخروج من الحالة النمطية التي كانت سائدة، والتي جعلت الانسان وبالتالي المجتمع يفقد هويته الانتاجية والخلاقة وارتباطه بالطبيعة الروحانية لتلك الطبيعة. ما كان موجوداً هو البحث عن الارتباط بالماديات والمحسوسيات التي تؤمن وجوده وتحافظ على كيانه ضمن المجتمع.
ظاهرة العنف بين هذين التقليدين لم تتوقف مطلقاً. بل على العكس من ذلك، كانا في كثير من الأوقات على وفاق فيما بينهما، وفي بعض الأحيان كان الصراع بينهما محتدماً ويغلب عليه الصراع السلبي، نظراً لقيام أصحاب التقاليد السلطوية باستخدام العنف بشكل فجّ ومن دون شفقة تجاه كل من كانوا يعارضونهم. وهكذا استمرت تقاليد السلطة والذين كانوا يمثلونها من الملوك الآلهة في السيطرة على المجتمع لآلاف السنين باستخدامهم اسلوبين:
– الأول كان عن طريق الترغيب بالبركة التي كانوا يغدقونها على المقربين منهم وتوزيع الهبات عليهم على أنها من عند الرب. وكانت قوة الكلمة هنا هي المحددة والتي تمتلك قوة سحرية للتأثيرِ على الشخص المعني مع وضع هالة من قدسية المعنى عليها. حينها تغدو هذه التعابير مُلهِمَة ومُؤثرة على ضمير ووجدان الانسان الذي لا حول له ولا قوة وضعف الوعي عنده كان الأساس ليكون العبد المطيع للملوك الآلهة. فالمعبد الذي كان وما زال يُعَدّ الرحم الأساسي لمُوِلّدِ السلطة الدينية ومن بعدها السياسية والاقتصادية والثقافية والمجتمعية وكلها مجتمعة، نكون قد وصلنا إلى القوانين الإلهية التي خطَّها حمورابي على أنها نواميس الحياة والتعامل بين الناس.
وبمزج هذه القوانين مع الأخلاق المجتمعية نكون قد وصلنا لاستنساخ مجتمع ديني– ميثيولوجي مؤمن بالقوانين الاخلاقية المتأتية من الملوك الآلهة التي تسكن الطابق (الدور) الأعلى من المعبد. بينما لعب الطابق الثاني الدور الهام للكهنة الذين كانوا يمثلون دور الوسيط ما بين الآلهة الملوك وبين البشر. وكان كلُ شيء يتم من خلالهم على أساس أنهم متأتين بالأساس من ثقافة الشامان التي تمتلك من الحكمة والدهاء مالا يمتلكه حتى الملوك الآلهة في كثير من الأحيان. وبنفس الوقت كان دور الكهنة أيضاً هو البحث عن دماء جديدة يمكن تدريبها بحيث يكونون من أصحاب الذكاء والمطيعين ليكونوا كوادر كهنوتية مستقبلية تخدم السلطة بكل أمانة وثقة. أما الطابق الأرضي فكان معداً لتمركز الاقتصاد وما يقدم للملوك الآلهة من عطايا وقرابين وذهب وخيرات للآلهة كي تكون راضية عنهم. أي المعبد كان هو موَلّد السلطة المركزية ومنه كانت مؤسسة الدولة التي ما زالت تستمد تقاليدها منه.
– الأسلوب الثاني كان الترهيب بالقتل أو النفي من المدينة التي كانت المكان الآمن الوحيد لهذا الشخص بعد انقطاعه عن مجتمعه الطبيعي القروي. وهنا كان أيضاً للكهنة دور كبير في انتاج المصطلحات والكلمات المؤثرة على الانسان كي تُخيفه وتردعه عن معصية أوامر الآلهة في تنفيذ الأوامر والتعليمات. وكي يتم إقناع المجتمع على الخضوع والعبادة، كان الوعيد بالنار والحرق والجلد هي الكلمات الوحيدة التي من خلالها يمكنهم أداء وظيفتهم الكهنوتية.
وربما إذا رجعنا لسردية ملحمة جلجامش والتمعن في جزئية اللعنة التي حَلَّت على سيدنا آدم وكيف تم طرده من الجنة، ربما تُخبِرنا بما آلَ إليه وضع الانسان العاصي لأوامر الإله. النظر لهذه الحادثة برمزيتها ربما يُعيننا كثيراً في استيعاب تاريخ الانسان ومأساته في بدايات تشكل المدن. هذه المدن التي تم إسباغ القداسة عليها والتي تأتي من تواجد المعبد فيها وعيش الملوك الذي كان على تماس مباشر معهم، ربما جعلها الكهنةُ الجنَّةَ التي يتمناها كل انسان على شرط أن يكون من المتعبدين للإله الذين سيباركهم فيها وأنهم من الأقربين له.
وبالمقابل كانت كلمة الجحيم والنار لكل من لم يَنصَع لأوامر الكهنة والملوك الآلهة وكان العاصي لكل ما يقولونه. إضفاء الهالة الدينية حول هذا المصطلح أيضاً جَعَل منه أكبر مصطلح يخشاه الفرد في حياته، لما سيلاقية الانسان من عذابات ورعب فيها من قِبَل زبانيتها. وهذا ما تخبرنا به سردية جلجامش بتفاصيلها الرمزية حينما ذهب ديموزي إلى العالم السفلي وما لاقاه هناك من مشاهد ترعب كل من يقرأها ليَخرُّ ساجداً خنوعاً للإله كي يكون من الصالحين.
من هنا أدرك سيدنا ابراهيم أنه لا بدَّ من القيام بعملية إعادة المجتمع لطبيعته قدر الإمكان، وإخراجه من حالة اللعنة التي حلّت عليه جرَّاء الظلم والاستبداد والتغريب المُسَيَّر عليه من قبل مؤسسة المعبد. بل ويمكننا حتى أن نقول أن سيدنا ابراهيم حاول أن يستمد يقينه من الرُسل والانبياء الذين كانوا قبله (أيوب وإدريس نموذجاً)، والذين عاشوا في نفس المنطقة ولكنهم لم يستطيعوا أن يقوموا بقفزة نوعية من أجل المجتمع، وبقيت محاولاتهم محلية نوعاً ماً. هنا الشك واليقين الذي كان عنصر القوة عند ابراهيم ربما جعله يفكر بطريقة أخرى أو بالأحرى بدينٍ آخر يكون جامعاً لكل الآلهة المتواجدة في المعبد ورفعها للسماء وتجريدها من عبث الملوك البشر بعدما عاثوا فساداً وظلماً بين الشعب.
الدين ربما لعب دور الهوية الأولى الخاصة بالمجتمع وحتى بمقدورنا القول أنه حالة الوعي البدائية التي عاشها الانسان. وهذا الوعي استَمَدَّ قدسيته من الحياة المجتمعية تحديداً، والتي عاشها الانسان منذ آلاف السنين. وعي مستمد من صراع التقاليد المقدسة للمرحلة الأمومية تجاه تقاليد السلطة الأبوية الذي استمر آلاف السنين. وما صراع أنكي إله مدينة “أريدو” مع إنانا إلهة مدينة “أوروك” لاسترجاع “ما”ءاتها سوى تصوير لذاك الكفاح العنيد للحفاظ على مكانتها السامية ضمن المجتمع. في حين أن التناحر بين مردوخ وتيامات في الملحمة البابلية يعكس الصراع على السلطة على أقل تقدير. وهو ينقل لنا ضراوة المرحلة الانتقالية من العهد الأمومي إلى العهد الأبوي البطرياركي، ولكن بسردية ولغة ميثيولوجية.
ويمكننا مشاهدة نفس اللوحة والصور من هذه السرديات والملاحم في ثنائية إيزيس – أوزيريس في المدنية المصرية، وزيوس – هيرا في المدنية الاغريقية وكذلك غيرها من المدنيات التي تتالت في المنطقة حتى الصين والهند وأوروبا وأمريكا. ويمكننا مشاهدة نفس الثنائيات مكررة في الأديان أيضاً وخاصة الأديان التوحيدية التي ظهرت فيما بعد. فثنائية ابراهيم – سارة كانت حالة توافقية نوعاً ما مقارنة بثنائية سيدنا موسى – ماريام، التي حُكِمَ عليها بالفشل المؤلم. وفيما بتعلق بسيدنا داوود وسليمان فالمرأة كانت مادة شهوانية لا سلطة لها. بينما في ثنائية سيدنا المسيح (عيسى) – مريم لا يمكننا سماع مريم تتفوه وكأن لسانها عالق في فمها ولا تستطيع النطق. أما في ثنائية سيدنا محمد – عائشة، فثمة مأساة تراجيدية. فالمرأة في أوهن مكانة لها حتى وإن كانت الأحب إلى قلب النبي في لعبة السلطة.
علاقة الدين بأورفا ينبغي دراستها وتحليلها بشكل كبير لما تُخَبِّئه هذه العلاقة الجدلية، وكيف أنَّها تَكرست بشكل كبير في هذه المنطقة، مما كان له التأثير المباشر على الصراع بين القداسة واللعنة. فقد تعرضت القداسة في أورفا لأكبر مأساة مستمرة حتى راهننا بكل جبروتها، وحوَّلت معها المدينة ذات التقاليد النبوية إلى ما يشبه مدينة قبور تَئِنُّ بمن فيها وتنتظر من يعيدها لسابق عهدها. حتى بات الدين في راهنِ هذه المدينة مرتبطاً بسياسة اللعنة المستمرة منذ هجرة سيدنا ابراهيم مع قبائله منها متجهاً نحو الجنوب. هذه العلاقة التي يجب أن يتم تحليلها حتى نتمكن من معرفة درب الوصول إلى الحقيقة المخفية في أورفا مدينة الأنبياء.
لقد أُسِّسَ مركزُ مدينةِ أورفا كمستوطَنةٍ سومرية. وكلمة “أور” تعني في السومرية “المدينة المبنية على التلال”. وفيما خلا ميزوبوتاميا السفلى، فإن أولى المستوطنات السومرية تشكلت في منطقة أورفا. إذ تُشكِّلُ مدنُ حرّان وسامسات وكاركامش محيطَ تلك المنطقة، بينما تتواجدُ أورفا في مركزها. وقد ظلت منطقة أورفا حتى أعوام الألف الثاني قبل الميلاد تُشكّلُ ثاني أهم مركزٍ بَعد المدن السومرية. كما كانت ساحةً مهمةً للانتشار نحو الخارج. وكانت -كمستوطَنة- تابعةً بمناطقها إلى ممالك المدن السومرية.
لكنّ اختلافَ بنيتها الإثنيةِ كان يجعل المقاومة ضد الهيمنةِ السومريةِ أمراً لا مفرّ منه. علماً أن المدنيةَ السومرية هي أول مدنيةٍ تؤسِّس المجتمع الطبقي، لتنتشر في محيطها على موجات متوالية. إلا إن بنية المجتمع الزراعي والبدوي، التي تتسم بالحرية والمساواة، كانت لن تخنعَ بسهولة لهذا التمايز الطبقي. وكان الطابع التقدميّ للتمدن سيفرض نفوذه على المدى الطويل دون بُد. بالتالي، فإن أولى التجارب السومرية الاستعماريةِ كانت ستُسفرُ عن مقاوماتٍ باسلةٍ ضد ذلك بدءاً من أعوام الألف الثاني قبل الميلاد.
يُرَجح أن الآريين استقروا على الأغلب في شمال المنطقة وشرقها وغربها، وأن الساميّين كانوا رُحَّلاً في جنوبها. وقد بُنِيَت مدينةُ أورفا في المكان الذي يتوسطهم جميعاً، وما تزال كذلك راهناً. فقد تميزَت أورفا -مدينةً ومنطقةً- بموقعٍ مثالي في أعوام 2000 ق.م، وذلك على صعيد الزراعة والتجارة والمهن الحرة وتربية الحيوان. تقطنه مجموعتان شعبيتان رئيسيتان متداخلتان (الآريون والساميّون) تشكلان معاً مجتمع القرية والمدينة والبدو. وكانت هذه الخاصيات بالغة الأهمية من ناحيةِ توجهِها لاحقاً -ودون تأخير- نحو خلق ثقافتها الحرة الخاصة بها. فهذه الثقافة التي تنامت على الأغلب للدفاع عن الذات ضد الحُكم الاستعماري السومري، كانت محليةً وتَتَّسِم بالمقاومةِ وبالخصائص الإثنية المختلفة. علماً أن شريعةَ (ثقافةَ) سيدنا إبراهيم تَعكس تلك الخصائص بأفضل الأشكال.
تُمَثِّل ثقافةُ سيدنا إبراهيم الاختلافَ والمقاومةَ ضد النماردة الذين يُمثّلون ملوكَ المدن السومرية. وما القصص الشهيرة التي تتحدث عن تحطيم الأصنام والرمي في النار، سوى سرود رمزية عن تلك المقاومة. بينما الحقيقة هي أكثر تعقيداً وأطول أَمَداً، وتمتد لتصل راهننا. ومن ناحية المضمون، فإن هذه الثقافة ترتكزُ إلى العقيدة التي تؤمن باستحالةِ أن يكون البشر (وبالتالي الملوك) آلهة. وتعتمد أساساً على العقيدة الإلهية الأكثر إنسانيةً وتناغماً مع مصالح القبائل المحلية، التي تقاوم ضد العبودية الفظة والاستعمار العبودي وضد الحكام السومريين الذين أعلنوا أنفسهم ملوكاً-آلهة.
وفي هذه النقطة يوضح السيد عبد الله أوجلان في مرافعته المعنونة “مرافعة أورفا”، أن أورفا لم تكن فقط مدينة سيدنا ابراهيم حيث أنه: (يُعَدُّ الأنبياء إدريس وأيوب ويونس ونوح خطواتٍ أكثر قِدَماً على دربِ هذه التقاليد. إذ إنهم يرمزون بالأغلب إلى الشخصيات الحكيمة التي تصدَّت باسم شعوبها للعبوديات السومرية والبابلية والآشورية، وخاضت الصراع الطبقي بلغةِ عصرها، ومَثَّلَت حرية القبائل الإثنية التي تنتمي إليها. أي أنه بالمقدورِ الحديث هنا عن مرحلة تاريخية. فالنظرُ إلى سيدنا إبراهيم على أنه الجدّ الأكبر لتلك التقاليد، يدل على الفترة التي برزَ فيها تأثير ونفوذُ تلك التقاليد، وعلى النجاحِ المؤزرِ للمقاومة).
يرجعُ الرسوخ الوطيد للنبوّة في ذاكرةِ البشريةِ إلى مساهماتها في إضفاء الأهمية الكبرى على كرامةِ الإنسان. فقَبلَ ذلك، كانت الرؤية السائدة تشير إلى الملوك-الآلهة وإلى بشريةٍ مستَعبَدة تماماً. بالتالي، فإن خَرقَ تلك الذهنية وتحطيمَ قيودها يُعَدُّ خطوةً ثورية هي الأعظم في عصرها. بمعنى آخر، فإن تحطيم الأصنام يرمز في حقيقةِ الأمر إلى إلحاق أولِ ضربةٍ موفقةٍ لا مثيل لها بالنظام العبودي؛ وإلى تمكينِ استمرارية ذلك. والنبوّة هي تقاليدُ تلك الحقبة أو صيغتُها المؤسساتية. وقد ركَّزَ ما تَبِعَها من خطواتٍ على الإعلاء من شأن الدين التوحيدي، وعلى تطويرِ ماهيته وتوطيده محلياً.
هذه الثورة الفكرية التي بدأها سيدنا ابراهيم في أورفا جعلت من عرشِ نمرود يهتز، ومعه بدأت تتلاشى تقاليد السلطة التي كان من خلالها يتربع على الكرسي الإلهي ومَن معه مِن كهنة المعابد. لذا، كان من الطبيعي أن تكون ردة فعل نمرود قاسية جداً تجاه سيدنا إبراهيم في أن يأمر بإيقاد نار كبيرة على أحد المرتفعات ليرمي فيها ابراهيم ويحرقه ويحرق أفكاره الثورية معه. رمزية اشعال النيران على المرتفعات كانت لها دلالتها النفسية على عموم الشعب الذي أمرهم نمرود بالحضور ليكونوا شهوداً على عقاب ابراهيم الذي حطَّمَ الأصنام التي كانوا يتعبدونها، وليشاهدوا بأمِّ أعينهم ما سيحل به وبكل من سيتبعه.
عملية الاحراق هذه كانت عقاباً لإبراهيم وبنفس الوقت درساً لكل مَن تراوده فكرة العصيان على أوامر الآلهة أو حتى على عرشه. اليقين الذي كان يعيشه ابراهيم بأن إلهه سوف ينجيه من هذه المحرقة هي التي أضفت معانيها على تقاليد وثقافة المقاومة التي آمنَ بها ابراهيم. إذ إن تَحوُّلَ النارِ “برداً وسلاماً” عليه ونجاته من هذه المحرقة، إن دل على شيء فإنما يدل على بداية نجاح وصعود الإله إلى السماء وأفول نجم الملوك البشر الآلهة، وإن كان بعد هجرة ابراهيم نحو الجنوب لتكتمل مسيرته بنشر ثقافة التوحيد للإله الواحد ونبذ الوثنية حينما وصل القدس.
هذه الرحلة استمرت طويلاً والتي عانى فيها سيدنا أبراهيم الكثير مع قبائله التي خرجت معه والتي كانت هي أيضاً تبحث عن هوية جديدة تجمعهم تحت راية دين آخر. هذه الجماعة المعارضة التي لم تقبل ألوهية نمرود في أورفا راحت تبحث عن إلهها في مكان آخر وجغرافيا أخرى، لتبقى ثقافة المقاومة المقدسة التي ابتدأها ابراهيم في أورفا محفورة في ذاكرة المجتمع حتى الوقت الراهن، حتى وإن كانت تعيش اللعنة بكل تفاصيلها.
إنها الهجرة التي أصبحت هي أيضاً من تقاليد وثقافة النبوة، والتي ستطبع كُلَّ من أتوا من بعد ابراهيم بنفس الثقافة، حتى تنضج ظاهرة النبوة في آخر المطاف في شبه الجزيرة العربية. والتي تُعَدّ في نفس الوقت آخر مكان تظهر فيه هذه التقاليد النبوية، مثلما أكدها سيدنا محمد في خطبة الوداع أنه “لا نَبي بَعدي”.
بهذا الشكل أُسدِل الستار على ظهور الأنبياء والرسل ثانية، وإن في مكانٍ آخر وزمانٍ آخر، ليؤكد أن الثقافة نفسها والتقاليد عينها سوف تتكرر ربما من نفس المكان الذي ابتدأت منه، ولكن بأسلوب معاصر لبناء مجتمع القداسة من جديد في نفس المكان الذي ظهر منه هذا المصطلح.