“أم عزيز” ماورائية الصورة ذاكرة حيّة عين المصور الصحفي علي سيف الدين
تبدو الصور في ذاكرة المصور الفوتوغرافي علي سيف الدين مخزونا مُحمّلا بالوعي، بالمواقف التي انتصرت لإنسانيته وعمّقت محبّته ونظرته الثاقبة والحكيمة لكل التفاصيل التي كانت تحوم حوله، باختلافها التصاعدي وخفوتها البارد الصامت والجامد وهي تطوي لحظاتها، إنها بانوراما راوغت التاريخ وسردته بصريا بكاميرا رصدت حالات واحتمالات وانتظار وترقّب وثّقها ببساطة من اقترب منهم وحمل قصصهم وحكاها بعدسته التي كوّنت لغته، ورغم تلك الملامح والوجوه والقصص كان لصورة “أم عزيز” في مسيرته البصرية تأثيرها في الحكايات الحاضرة التي لم تغب يوما عن الأحداث ولم تختف عن المساندة ولم تستسلم لضغوط الزمن أو كثافة اليأس المتراكم من الفقد، مقاومة بذلك التحدي الحضور الأكيد والاندفاع الأكثر عمقا للفراغ والتلاشي وهو ما خلّدها مع حكاية أبنائها وأبناء كل من فُقدوا في الحرب والأسر والسجون والمعتقلات.
حيث يقول “أم عزيز الانسانة الباقية في الحكاية والصورة “خلال الحروب والمشاكل الاجتماعية التي تحدث في أي دولة هناك، من الطبيعي أن يكون المُصور في قلب الحدث لاقتناص اللحظة وتحويلها لخبر ومن ثمة توثيقها، غير أننا ونحن نستعيد ذاكرة تلك الأحداث نركّز على صور معينة تنتشل حواسنا وتستثيرنا خاصة إذا كانت تعبّر عن حالة إنسانية مثل حالة “أم عزيز” الأم التي فقدت أربعة شباب من أولادها في الاعتقال والأسر، وهذه الحكاية ليست استثناء إذا ما قارناها بآلاف الأمهات اللاتي فقدن أبناءهن في الحرب، فهناك غير “أم عزيز” أكثر من 170 ألف قتيل و17الف مفقود خلّف رحيلهم آلاما اختلفت درجاتها، لكن ما كان يميّز “أم عزيز” هو أننا كيفما اتجهنا نصادفها في أي وقت وأي مكان وعند أي حدث مهما كان سلميا صداميا تجتاح بصائرنا وهي تحمل صور أبنائها، لقد كنا نركّز على صورها وننشرها بشكل خاص في صحفنا ونحن على يقين أنها تمثّل قضية كل تلك الأمهات وتخزّن مشاعرها وتفاصيلها وتوثّقها للأجيال القادمة فصورة “أم عزيز” لها دور توثيقي ودور فني وثقافي يؤرخ قسوة الحروب الظالمة تعبيريا باعتبارها ذاكرة للمستقبل كنا نرى مراحل العمر تتجلى فيها إصرارا وثقة وأملا استطاع أن يتحوّل إلى أيقونة بصرية للتصوير الفوتوغرافي الفني التعبيري وأيقونة مُلهمة للتشكيليين من خلالها تعرفوا على معاناة الحروب وإصرار ذوي الحق وأملهم أن القادم قادر على تجسيد الحرية والأمل والاستمرار في فرض الحياة.”
ساهمت الصور التي قدّمها علي سيف الدين وغيره من المصورين الذين اختاروا المواجهة بكاميراتهم ونقل كل ما رأته أعينهم وبصيرتهم من وقائع حوّلها التوثيق إلى رؤى تعبيرية وسريالية تجاوزت واقعها إلى درجة لا تصدّق حيث استحوذت على رموز ومجازات تحمّلت الأبعاد الأكثر دقة للضوء والعناصر التكوينية في فرض الصورة وتداخلاتها بين اللون وما يكثّفه الواقع من تفاصيل داكنة وتجليات تماهت بين الحقيقة والفن فبين الأمل والدموع تجلّت ملامح الأمكنة وزوايا الوجوه في خراب حاولت الصورة ترميمه.
هذا الترميم انتشل الفوضى بفلسفة ترتيب مختلفة لم تكن قراءتها ممكنة لولا فعل الزمن عليها وتحوّلها لذاكرة مثقوبة تبحث بين الأنقاض عن شيء من القوة في كل تلك الأجساد التي استطاعت الصمود والاستمرار وقهر فراغ الوقت كما فعلت “أم عزيز”.
إن قصة “أم عزيز” برأيي كانت أكثر القصص إنسانية من كل الحالات التي صادفتها فقد حملت صدقها وإيمانها وثقتها بصوته بنضالها وإصرارها فقد كانت لآخر لحظة تجوب الشوارع منذ الصباح وعلى خطوط التماس وهي تضع صور أولادها الأربعة الذين فُقدوا خلال الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 وكانت تقود جميع أهالي المفقودين الى بيوت مسؤولي الأحزاب والسفارات ورجال الدين رافعه صور أولادها الأربعة وهي بحالة الصراخ والبكاء ودموعها لا تفارق وجهها ولكنها قوية في تناقضها المنعكس على التوازي المحتمل لضعفها فكانت لا تفارق الشوارع والساحات إلا في الليالي، فكانت تزور المدافن والمقابر لربما تشتم رائحة أولادها الأربعة، تبقى “أم عزيز” من خلال أملها بعودة أبنائها أحياء رغم أنهم قتلوا في مجزرة “صبرا وشتيلا” ولكنها لم تفقد أملها، فحالتها إنسانية باقية في مخيلتنا وصورها وثيقة للتاريخ تُعبّر عن بشاعة الحروب ومن يدير هذه الحروب في العالم وفي بلادنا، وعلى المثقف شاعرا كان أو كاتبا أو فنانا تشكيليا له دور في التعبير عن حالة ام عزيز الإنسانية، هذه الحالة التي تنتصر لكل قصص الأمهات اللاتي لازلن يربين الأمل وينثرنه ويترقّبنه.”
إن قدرة الصورة الفوتوغرافية على الفعل والتفاعل لا يمكن أن تقف عند الحدث واللحظة التي التقطت فيها إنها اقتناص استطاع أن يحمل ذاكرة للمستقبل لم تكتف بسرد التفاصيل بل صنعت منها انتصارا على العدوان وتثبيتا لوحشيته التي تركت صداها في الذكرى والذاكرة في الماضي والانتظار.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
مجموعة البنك اللبناني للصورة