أسرار مسجد الجزائر الأعظم الذي أصرّ بوتفليقة على تشييده
على الطريق السريع المحاذي لبلدية المحمدية بالعاصمة، لا بد أن تشرئب الأعناق حد النهاية لرؤية التفاصيل الأخيرة لمنارة جامع الجزائر، الجاري إنجازه منذ 10 سنوات.
وإلى وقت قريب، كان أول ما يشد انتباه القادم باتجاه العاصمة الجزائر، النصب التذكاري الشاهق المعروف باسم مقام الشهيد. تغيرت المعالم الآن وباتت المنارة الأعلى في العالم، تعلو المحروسة (اسم العاصمة تاريخياً)، من جهاتها الأربع، وتنتصب فوق أضخم مشروع ديني تستعد الجزائر لاستلامه بشكل كامل سنة 2019.
جامع الجزائر أو المسجد الأعظم الذي أثار جدلاً حاداً داخل الجزائر وخارجها، في حقيقته ليس مجرد مسجد، وإنما معلم عملاق يخفي وراءه قصة طويلة.
ليس مشروع بوتفليقة
بعد 3 سنوات كاملة من الغياب عن الأنظار، اختار الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة ورشات جامع الجزائر للقيام بأول جولة ميدانية له، تحديداً بتاريخ 10 أكتوبر/تشرين الأول 2016 وقف خلالها على وتيرة تقدم الأشغال واطلع على فيديو يوضح كل شبر من المسجد.
عاد بوتفليقة، منتصف مايو/أيار الماضي، إلى الجامع الأعظم، ودون شك، وقف على حجم الفرق بين الزيارتين، حيث استكملت الأشغال الكبرى، والعمل جار على الزخرفة وتفاصيلها الدقيقة والمكلفة.
هذا الاهتمام الذي يوليه الرئيس الجزائري، للمشروع، خلف عدة تأويلات وصلت إلى حد تسمية المشروع بـ”مسجد بوتفليقة”، والاعتقاد بأنه أهم مشروع استراتيجي يريد بوتفليقة رؤيته مسجداً قبل مغادرة الحكم حياً أو ميتاً.
بينما تقول حقائق التاريخ، “إن بوتفليقة هو صاحب الشرف في إطلاق المشروع، بتوفيق من الله وبفضل البحبوحة المالية التي عرفتها البلاد في العقد الماضي”، مثلما يقول أحد أعضاء الخلية العلمية التي أشرفت على التصاميم الفنية للمسجد.
ويضيف محدثنا، الذي فضل التستر على هويته، إن “الرئيس تبنى الفكرة ودافع عنها، بينما كان ركيزة المشروع محمد لخضر علوي، المدير العام السابق للوكالة الوطنية لإنجاز الجامع الأعظم والمدير الأسبق للمركز الوطني للبحث في تاريخ الحركة الوطنية”.
ولعب وزير الشؤون الدينية السابق والرئيس الحالي للمجلس الإسلامي الأعلى بوعبد الله غلام الله، “دور الوسيط القوي بين محمد لخضر العلوي الذي جاهد من أجل المشروع، والرئيس بوتفليقة حتى نجح في إقناع الأخير”.
وسمحت الأريحية المالية التي عرفتها الجزائر منذ 2005 إلى غاية 2008، بتخصيص ميزانية قدرها 1.4 مليار دولار لبناء المسجد، وارتفعت القيمة لتناهز 2 مليار دولار بعدما تم ضخ المزيد من الأموال بأمر من الرئيس بوتفليقة.
وفكرة بناء المسجد الأعظم، ليست وليدة السنوات الأولى للألفية الجديدة، حسب المؤرخ محمد الأمين بلغيث، فقد “كانت أمنية كل علماء المغرب الأوسط (الجزائر) في بناء صرح ديني وحضاري، يشبه جامع القرويين في فاس المغربية، والزيتونية التونسية والأزهر الشريف في مصر”.
وقال بلغيث لـ”عربي بوست” الجزائر الحديثة المستقلة بصدد تجسيد ما طمح إليه كافة علماء البلاد خلال العقود الماضية”.
انتقام
شيد المسجد الأعظم بمحاذاة مصب واد الحراش الشهير في البحر، واختيرت له بطحة شاسعة بمدينة المحمدية، ولم يكن اختيار المكان اعتباطياً كما يبدو، ويكشف التعمق في تاريخ المنطقة عن وقائع تاريخية لها علاقة بحملات الحرب الصليبية على الجزائر وعلى معالم المسيحية التي غرستها فرنسا أثناء احتلالها للبلاد.
وكشف المؤرخ محمد الأمين بلغيث، أن الشاطئ البحري المقابل للجامع، عرف واحدة من أكبر غزوات التاريخ، “فهناك هلك أسطول شارلكان أو كارلوس الخامس، ملك إسبانيا في معركة غزو صليبي سنة 1541 لا يضاهيها من حيث الحجم والقوة إلا حملة فرنسا على الجزائر سنة 1830″.
وأضاف المتحدث بأن “الشركة الألمانية المصممة للمسجد وهياكله، جعلت دار القرآن الكريم، فوق المساحة ذاتها التي بنيت عليها أول مدرسة للآباء البيض في الجزائر والتي بنيت في السنوات الأولى للاحتلال الفرنسي ومولت من قبل وزارة الأشغال العمومية الفرنسية”.
وحتى علو المنارة وجعلها الأطول في العالم ب265 متراً، ليس بمحض الصدفة، فهي تناطح أعلى مرتفع في العاصمة (هضبة بوزريعة بأزيد من 300 عن سطح البحر)، وبالتالي تتجاوز كنيسة السيدة الإفريقية المشيدة على يد القسيس بافي سنة 1855 بأعالي العاصمة وبالضبط بمنطقة الزغارة.
ليس هذا فقط، فمدينة المحمدية التي تحتضن الجامع الأعظم، كانت تحمل اسم شارل لافيجري قائد جمعية المبشرين بالجزائر المعروفة باسم الآباء البيض، وغير اسمها بعد الاستقلال نسبة إلى الرسول محمد عليه الصلاة والسلام.
سينهار؟
قبل حوالي 6 سنوات، نشرت غالبية الصحف الجزائرية وبالبنط العريض، تقارير مفادها أن المسجد الأعظم سينهار لأنه بني على أرض زلزالية.
وقاد خبير الأشغال العمومية وقت ذاك، عبد الكريم شلغوم، حملة ضخمة تنادي بضرورة تغيير مكان بناء الجامع، لأنه سينهار في أول هزة أرضية تقدر شدتها ب6 درجات على سلم ريتشر، ناهيك عن كون المساحة المخصصة له مسروقة من البحر وفي جوفها مياه كثيرة.
وتطلب الفصل في موقع البناء سنة كاملة من الدراسات الجيولوجية، واستدعت السلطات الجزائرية مكاتب دراسات من عديد الدول وبالأخص من تركيا والولايات المتحدة الأميركية، والذين أعطوا الضوء الأخضر لمباشرة العمل.
ورد وزير السكن والمدينة الأسبق عبد المجيد تبون، الذي كان المشرف الأول على المشروع، على تلك المخاوف بأن “الجامع يشيد بأحدث التقنيات المضادة للزلازل، وإمكانه الصمود في وجه هزة بقوة 8 درجات على سلم ريشتر”، وقال تبون إن المنارة بنيت على نوابض تمنحها القدرة على الانحناء ب70 سنتمتراً يميناً ويساراً عند حدوث الهزات الأرضية.
حرب فرنسية على المسجد
في 2016، شنت وسائل الإعلام الفرنسية حملة كبيرة ضد مشروع جامع الجزائر وأعطته صبغة سياسية عندما نسبته إلى بوتفليقة.
وأنجزت صحيفة “لوفيغارو”، تحقيقاً في 04 أبريل/نيسان 2016، حمل عنوان “الفرعون بوتفليقة يبني المسجد الأعظم”، في إشارة إلى طريقة تشبثه بالحكم ودعمه للإسلام في وقت يخوض العالم حرباً ضد الإرهاب.
وفي نفس الفترة نشر موقع فرانس 24، تقريراً مفصلاً، عن الجدل الذي أثير في الجزائر بشأن جدوى بناء المسجد، وكتبت ” تشييد جامع بوتفليقة بأكبر مئذنة يثير الجدل بالأوساط الجزائرية”.
والجدل الذي نشب بين الجزائريين، كان حول المفاضلة بين بناء مسجد ب2 مليار دولار، وبناء مستشفيات يعالج فيها المواطنين وتقضي على الفوضى الحاصلة في القطاع الصحي.
وقال رؤوف شاب جزائري ملتح، “لا يوجد حي في الجزائر دون مسجد، لا أرى الجدوى من بناء مسجد كبير بكل هذه الأموال، مستشفياتنا مكتظة ومن الأفضل الاستثمار فيها”.
ولا يترك رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بوعبد الله غلام الله، الذي لعب دوراً كبيراً في تجسيد الصرح الضخم، فرصة إلا ويرد على رافضي المشروع بالقول “إن الأمم تؤرخ لحضارتها بالمساجد، وهذا المسجد سيكون شاهداً على الجزائر الحديثة المستقلة”، مضيفاً “للمسجد ميزانيته وللمستشفيات ميزانيتها الخاصة مثلما أكد رئيس الجمهورية”.
بينما اعتبر وزير السكن يومها، أن الشركة الفرنسية المتخصصة في الأشغال العمومية “بويغ” هي من تقف وراء الحملة الشعواء ضد المشروع بعدما فشلت في الظفر بالصفقة.
واختار الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة شركة صينية لاستكمال المشروع، بعد سحبه من المؤسسة الألمانية.
وقال في ندوة صحفية “بويغ كان يعتقد أنه في منزله وأن المسجد له، ولم يحصل عليه ولن يحصل عليه وهناك علاقة بين ما تنشر وسائل الإعلام الفرنسية والشركة”.
وتابع “من يسمح لك بأن يصبح حي حمل اسم لا فيجري (المبشر الفرنسي) سميناه على محمد صلى الله عليه وسلم، المحمدية، وتضع له المسجد الأعظم هناك، والذي يغطي بظلاله كل أذنابهم (أتباع فرنسا في الداخل الجزائري)”.
وبالنسبة للمؤرخ بلغيث، “الجامع الأعظم ليس كباقي المسجد، فهو منشأة دينية، ثقافية، اقتصادية وسياحية، سيكون مركز العاصمة والبلاد الذي يستقطب 100 ألف زائر في اليوم الواحد”.
أرقام رهيبة
بقبته المرصعة بالأصفر والفسيفساء الإسلامية المغاربية، والمستقدمة من شنغهاي الصينية، ليس هناك أكبر من مسجد الجزائر الأعظم في العالم سوى المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد النبوي في المدينة، أما منارته فهي الأطول على الإطلاق وبها طوابق ستخصص كمتاحف في كل طابق حقبة من ما قبل التاريخ إلى مطلع الألفية.
زهاء 2 مليار دولار، هو المبلغ الذي رصدته الدولة الجزائرية، لبنائه على قطعة أرضية تبلغ مساحتها 25 هكتار. يضم قاعة صلاة تمتد على مساحة 20 ألف متر مربع وتتسع لحوالي 120 ألف مصل، ومكتبة تسع 6000 شخص، ومدرسة قرآنية لتكوين الأئمة والباحثين في علوم الدين، وتعلوه منارة بارتفاع 265 متراً بـ43 طابق، وفي كل طابق متحف يؤرخ لحقبة تاريخية معينة.
تحت المسجد 3 طوابق، بها حظيرة سيارات تسع 6000 سيارة، إلى جانب حدائق واستديوهات ضخمة.
وحازت شركة ألمانية متخصصة على صفقة تصميم مخطط المسجد، قبل أن تدخل عليه تعديلات هامة مرغمة، بعدما وضعت في البداية إنشاء مطعم فخم به مراحيض، في أحد طوابق المنارة المرتفعة، وهو ما اعتبر إهانة للمصلين.
بدأت أشغال التهيئة الأولى سنة 2008، وتعثرت عدة مرات، بسبب صراع بين المسؤولين الجزائريين والشركة الألمانية الأمر الذي أدى في النهاية إلى التخلي عن الأخيرة وتعويضها بمؤسسة صينية.
وبالنظر لضخامة المشروع، تم تحويل الوصاية عليه من وزارة الشؤون الدينية والأوقاف إلى وزارة السكن والعمران، والتي قدمت في كل مرة آجال لاستكماله فبعد 2017، 2018، أعلن وزير السكن عبد الوحيد تمار قبل أسابيع أن سنة 2019 ستكون آخر فصل من فصول البناء.