“أثير شعيوتا”.. تجربة تشكيلية تستعيد العراق بتصويرية الاسترجاع، ورمزية الحضور
كتبت.. بشرى بن فاطمة
إن التأمل في الفن التشكيلي العراقي بكل مراحله الحداثية والمعاصرة يستنتج أنه في حد ذاته مدرسة متنوعة باختلاف التفاصيل والأساليب التعبيرية وحتى الأحداث والتلقي واستيعاب فكرة الفن التي تركت تأثيرها على التجارب التشكيلية العربية وبصمتها العالمية، رغم الأوج والفتور والتجدد والحيرة خلقت في حد ذاتها بحثا فنيا للخروج باللغة البصرية من ضيق الشكل التعبيري والانفتاح على الذات والوطن والآخر.
وتعد فترة الخمسينات ثم الستينات فترة الأوج الفني الذي اتسم بالاكتشافات والبحث والتنوع والبصمة الغربية المحترفة، فقد ارتبطت بالثراء الفكري والتجاوب التجديدي في الإنجاز سواء في الرسم أو النحت والخط العربي، وهو ما ميز عدة أسماء نذكر فائق حسن وجواد سليم والدروبي وشاكر حسن، ومحمد غني حكمت.
ولم تهدأ الحركة عند هؤلاء بل تجددت وامتازت بنهضتها وهو ليس بغريب على بلاد الرافدين وطن الحضارة العميقة والتنوع الثقافي وهذا التميز أنضج المراحل المعاصرة بكل تعقيداتها التي آلت إلى التراجع، فالتجارب الحديثة بلورت الوعي بالفن كجزء تعبيري عن العراق الذي بات مجده حنينا وذاكرة وواقع تحد وتشبث وأمل، خاصة وهو يعايش أزمات وأحداث سياسية اجتماعية وعسكرية لم تهدأ رغم قسوتها الريشة والحرف والازميل والصورة والفيديو.
ولعل تجربة التشكيلي العراقي-الأمريكي المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية “أثير شعيوتا” تأثرت بكل تلك التجارب وتبنت العراق بتلونه وعمقه بكل تناقضات الوجع والحنين من خلال تجارب تصويرية واقعية تستعير الماضي وتصله بالحاضر فيتقمصه ويجسده في مساحاته التعبيرية.
وأثير شعيوتا مواليد العراق 1968 مقيم بالولايات المتحدة الامريكية قدّم لوحاته في العديد من الصالونات في العالم واقتنت أعماله عدة جهات أمريكية من بينها المتحف العربي الأمريكي بنيويورك، ومتحف فرحات الفن من أجل الإنسانية بلبنان.
*الفنان التشكيلي أثير شعيوتا
الواقع والتصور استعارة الحنين
في سنة 1962 قام الخطاط الكلداني العراقي “باولوس كاشا” بتقديم عمل فني لوالد أثير بعد أن كلفه أن يطبع الكتاب المقدس لكنيسة المدينة في “تل-كيف” بالقرب من الموصل بالعراق.
وقد استلهم أثير من عمل كاشا فكرة جسمت تفاعل الرؤية مع الواقع والتواصل مع الماضي بالحنين وهذا العمل التصويري الذي قدمه سنة 1992 استخدم فيه الحدود التي جسمتها لوحة كاشا كما استند على الرموز البيزنطية المسيحية والنص الآرامي الذي ظهر في اللوحة بكتابة أسماء والديه وتجسيد شجرة العائلة.
ومن خلال هذا التصور والبحث نلاحظ التوازن الفني التشكيلي بين الإحساس والفكرة في نضج تجربة شعيوتا الرمزية الواقعية والتصويرية وترويضه للزمن فكرة وحضورا وجذورا تشبعت بالتجارب العراقية المعتقة، الواقعية التعبيرية، الجمالية، الرمزية بكل الاختلافات والتفاصيل والتنوع الفكري واللوني وهو ما استفز أثير للبحث في عمق تلك التجارب الواقعية واستثارتها لتحضير الصور الغائبة في ذاكرته.
*”شجرة العائلة”
فالاستعارات ميزت تجربة أثير شعيوتا من حيث تجاوبها مع واقعه العراقي عبر كل مراحله التاريخية التي حاول من خلالها تجاوز الاغتراب بالسكن البحثي داخل وطنه، بالتوثيق واستعادة الأثر فقد عاد إلى الرسوم التي خلدت مسيرة فائق حسن وجواد سليم التي ترجمت الانطباعية والرومنسية والواقعية وتركت بصماتها الخالدة.
كما غاص في إرث عائلته ومسقط رأسه بالعراق وكل ما يمثله من انتماء ليستعير من تلك الأطر واقعا متفردا في أعماله استعاد به حضوره في تراب وطنه بصور تسبح في ذاكرته وملامح ركّبها على صورته وعايش بها المكان.
إذ تمكن من صناعة واقعه من تلاوين ذاكرته تلك المندمجة مع أحاسيس جمّعها بكثافة الجزئيات التي تجاوزت الانطباع وتجددت بفكرتها المعاصرة فبين الذاتي والجماعي شكل مشاهده وعايشها، كما استوعبها بكل تفاصيلها من المعمار إلى الملامح بإنسانيتها التي تغمره فتقمص دور كل ملمح فيها وعاشه من البقال والجزار وكل عابر في أزقتها مبرزا علاماتها بدقة من الملبس والمكان والطبيعة والخط مجادلا الظلال بتدرجات الضوء.
إن المشاهد المنفلتة من ذهنه يرممها حداثيا ويعكسها على عوالمه الراسخة في الذاكرة التي لم يقدر الزمن على تغييرها فظلت كما هي في استحضاراته بزينتها واندفاعها صورا خام لم تخترقها العتمة، وتلك هي الجرأة التي تميزه في تعامله مع التعبير الواقعي بدلالته المرتبة المتزنة والمحكمة التسرب الشعوري.
فقد كان يحرك تفاصيلها كما يشاء بعمق استيعاب وإثارة المقاطع التي يستقطعها من الأطر والمشاهد والدلالات والفراغات والعلامات والملامح الإيمائية التي تقلب مفهوم الاغتراب عنده وفق المستوى والعنصر التشكيلي للون والضوء والتدرجات والقطع فهو يستعير كل أثر ولحظة ووثيقة وصورة.
في العملية التصويرية يتكئ شعيوتا على البحث الدقيق عن الملامح الإنسانية وعمقها التفاعلي مع الواقع بطرق أليفة تداعب التذكر وتنبش مخزون الذاكرة لمحاولة ملأ النتوءات التي تشكل فراغات الغربة والاغتراب ذاتا ووطنا وعلاقات توحّد ثنائية التعامل الشرقي والغربي مع الفكرة.
*شقة 63
في كل لوحة وتجربة يقدمها شعيوتا يشعرنا بالألفة الصاخبة والتوتر المنفلت في وجوه شخصياته التي يداعبها ويهدّؤها بألوانه ويفجر عمقها الحسي لتبدو كعنصر متكامل الفكرة والمشاعر تستعيد الحياة وتتأمل عنصر البقاء فالحضور متناسق السطوع كلاسيكي الحضور رومنسي متجدد التوزيع اللوني والضوئي بتقنياته وتدرجاته في اعتماد الألوان الزيتية على القماش أو الخشب.
إن شخوصه التي تحتل اللوحة ليست جامدة بل متفاعلة في دورها الاستيعادي ومجاز التذكر نظراتها تسترجع بحكمة بصرية لا تنفصل عن واقعها وحاضرها فالذاكرة تبحث في التفاصيل دون عوائق أما الجسد فيتفاعل مع مكانه ومع الذاكرة فهذه التجربة المتراكبة مع تفاصيل شخوصها تحمل حكايتها العميقة حضورا ولونا فما يميزه هو ذلك التواصل الحميمي بين المتلقي والشخوص حيث تبدو كمشهد عابر في الذكرى خاصة بإضفاء الألوان الباردة والحارة وتوزيعها الضوئي على خلفية جامدة ومتحولة في آن حسب العتمة والتدرجات اللونية.
*حنا وأثير
فقد حمل العراق في صورة والديه وعائلته في التفاصيل التي تميز الأمكنة في الاكلات الشعبية “المسكوف” و”الدولما” في الحياة والطبيعة وتفاعلاتها المبنية على التوثيق البصري لملامح وذاكرة غائبة لكن مشاهدها مستحضرة وحيّة.
فهو يقول “أنا العراق والعراق يمر مني وعبري كل ما فيّ منفذ فرح وبحث والهام يشبه الذاكرة المفتوحة على أفق الحياة والواقع”.
تأثرُ أثير بالتجارب العراقية الرائدة كان واضح الترتيب البصري كما تأثره بالمدرسة الغربية ومرجعياتها التي خلقت وعيه الأسلوبي والفكري بانفتاح الذات وصقل خصوصيتها فمن خلال تجربة الرسام الهولاندي رامبرنت أجاد تقنية الضوء والظلال في التعبير عن الواقع الملامس لحواف المشاعر كما تأثر به بشكل واقعي في العلاقات الخاصة “الحب والعشق” فكما “رامبرنت وساكسيا” كانت علاقة “أثير وميمنة” شريكته وزوجته ورفيقة الفن والبحث والفكرة علاقة مكثفة الحضور أفرزت أعمالا ولوحات ومرحلة على “قيد الحياة” أو”الزهور” في تفاعلاتها الجمالية التي تفجرت بإلهام مفعم بالمحبة والتجدد والتجريب.
*ميمنة فرحات وأثير شعيوتا
كما تأثر بواقعية كوربيت وتصويرية لوسيان فرويد من خلال التدفق الطبيعي لوعيه الداخلي بالتصورات الواقعية في بحثه عن بؤر العتمة والنور ، كما تأثر بالسينما والموسيقى كترويض وجودي للمخيال البصري في ترانيمه التي توقظ التذكر “فسينما نوار” أو “الفيلم الأسود-الميلودراما” خلق لديه تفاعلات حسية وإثارات البحث داخل الظلال في عمق العتمة والسواد، في تلك الجوانب التعبيرية الغامضة عن ذلك النبش الذاتي والتحقيق المبالغ في ثنايا الذاكرة ووثائقها المبعثرة وشخوصها الغائبة والحاضرة.
*على قيد الحياة 11 لميمنة
لأثير شعيوتا شغف التجريب والحث والفكرة التي تعيد أسس الحياة وعناصر التجدد في الأسلوب التعبيري فقد حملته موسيقى شوبان إلى عوالم الحنين والتذكر في رومنسية ابتكار زهوره التي تجلت على حواف اللون واللوحة وتماسكت على قيد الحياة والحلم والحب بمزاج تفاعل مع كل العناصر فكل باقة فجرت بحيوية وديناميكية توازناتها لتحافظ عل بقائها وتماسكها الواضح.
فالتماسك والتوازن عنصر ضروري للبقاء خاصة أمام ازدواجية الانتماء فبين الشرق والغرب تتبعثر التفاصيل لكنها تخلق التحدي الذي يميز فكرة السيطرة على متابعة المتلقي الغربي فالغوص في تفاصيل العراق ليس عبورا إلى الذاكرة بل انتماء جمالي عريق وحداثي قادر على الاندماج وفسح جوانب الألفة البصرية القادرة على التوغل في اللامرئي.
إن الوجوه والحكايات والقصص المتراكبة في صور اللوحة التي يقدمها شعيوتا تنبعث من ثقافة بصرية شاملة عربية وعالمية تتجادل في ملامحها وانفلاتاتها بحثا عن توازن الفكرة والجسد كما في عمله المستلهم من التشكيلي الفلسطيني “داوود زلاطيمو” الذي استعار منه فكرة تصوير ابنه الطفل يركب سيارة صغيرة وحاول تركيب الحالة على صورة ابنته كابتكار للشكل والصورة سماها “ما بعد زلاطيمو”.
*بعد داوود زلاطيمو
فعبر الألوان وغواياتها بتآفقاتها في جغرافيا الوجود وإشراق يتغذى من الإحساس وطبيعة التذكر من الثبات والتحول كمن يفجر الكتب القديمة والقصائد والأشعار حضارة تعكس الانتماء تلونا إنسانيا وحضورا مؤثرا في الذهنية التي ترتب الموازين الثقيلة بحميمية تتوغل في الوجدان وتتعايش مع المشاعر بتفوق يتجاوز القلق والحيرة ويقترب من المتلقي في ثبات شعوري متطرف الحزن والفرح.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collection
The Painter’s Daughter (After Daoud Zalatimo)
مجموعة اللوحات الخاصة للفنان أثير شعيوتا